أنت في الصفحة : مقالات
تأريخ النشر : 2021-02-12 16:46:23
أنت في الصفحة : مقالات
جاري التحميل ...
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، فإنّهم بدأوا بتهيئة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق، مثلاً، بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس عليها! وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة. وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: ﴿قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون﴾. ويستفاد من القرآن الكريم أنّ موسى (ع) قال ذلك عندما سألوه السحرة: هل تلقي أنت أوّلاً أم نلقي نحن أوّلاً؟ وهذا الاقتراح من موسى (ع) يدلّ على أنّه كان مطمئناً لانتصاره، وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا ﴿الميدان﴾، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى (ع) ﴿فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون﴾. وهنا -كما يبيّن القرآن تحركت العصيُّ كأنّها الأفاعي والثعابين ﴿فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾. فتهللت أسارير وجوه الناي ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، وسُرّوا سروراً لم يكن يخفى على أحد، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد! إنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيماً ومهماً، ومدروساً ومهيباً، كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف، ونظراً إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن كانوا في ذلك العصر كثيرين جدًا، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿فأوجس في نفسه خيفةً موسى﴾ أي إن المشهد كان عظيماً جدّاً ورهيباً إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلاً، وإن كان ذلك الخوف -حسب تصريح نهج البلاغة- لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعباً، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته. نور الإيمان في قلب السحرة إلّا أنّ موسى (ع) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم ﴿فألقى موسى عصاه﴾ فتحولت إلى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة ﴿فإذا هي تلقفُ ما يأفكون﴾. وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة. وتبدّل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ?إلى تلك اللحظة- مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى ﴿فأُلقي السحرة ساجدين﴾. الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ﴿أُلقي﴾ وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم. واقترن هذا العمل العبادي -وهو السجود- بالقول بلسانهم فـ﴿قالوا آمنا بربّ العالمين﴾. ولئلا يبقى مجالٌ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنّهم قالوا: ﴿ربّ موسى وهارون﴾. آمنتم به قبل أن آذن لكم؟ أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و﴿قال آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾. هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم به)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!! إلّا أن فرعون لم يقتنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلاً، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً. فاتّهم السحرة أوّلاً بأنّهم تواطؤوا مع موسى (ع) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾. وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم؛ وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم. إلّا أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها ﴿فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنكم أجمعين﴾. أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر). لا ضير إنّا إلى ربّنا منقلبون إلّا أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة -والمؤمنين في هذه اللحظة- قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله؛ بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع وأحبطوا خطته و﴿قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون﴾. فأنت بهذا العمل لا تنقصّ منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذه التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلّا أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا ﴿فاقض ما أنت قاضٍ﴾! ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى (ع) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ﴿إنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين﴾. إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل. وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجو أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ! أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟! إنّها قوّة الإيمان. إنها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف! إلّا أن هذا المشهد -على كل حال- كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته -طبقاً لبعض الروايات- فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون- إلّا أن ذلك لن يكفئ عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها أكثر فأكثر! ففي كل مكان كانت أصداء النّبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا بموسى أيضاً.
ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر
جاري التحميل ...