أنت في الصفحة : مقالات
تأريخ النشر : 2021-07-06 13:45:56
أنت في الصفحة : مقالات
جاري التحميل ...
عرض القرآن الكريم مشاهدَ ليوم القيامة، وصوّرها أروع تصوير، فمنها ما يحكي نعيم أهل الجنة في جَنّاتهم، ومنها ما يصوّر عذاب أهل النار، ومنها صورٌ نقلت لنا جوانب من أهوال العالم الآخر. ومن تلك الصور؛ ما يجري من حديث على ألسنة المؤمنين حول أعدائهم المجرمين، فترى المؤمنين يتساءلون عن المجرمين؛ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾؟ فيجيبهم المجرمون: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [سورة المدّثّر: 43-47]. وكلامنا ها هُنا بخصوص الجملة الأولى من جواب الكافرين؛ ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾، التي عندما نسمعها نفهم من ظاهرها أنّ السبب في هذا المصير هو ترك الصلاة، لكنّ تعبير القرآن الكريم –على لسان المجرمين- يوحي بأنهم لم يكونوا يصلّون أبداً، وهذا لا يعني أنهم تركوا الصلاة، بل لم يكونوا من فئة المصلّين أصلاً، فكيف تركوا الصلاة؟! ولَقَبُ (المصلّين) يُطلق على من أقاموا الصلاة، لا على مَن صلّوا وتركوها أو تعثّروا فيها، لأنّنا لا يمكن أن نسمّي الأنسان مُصلّياً إلّا إذا عهدناه من أهل الصلاة، وإذا عرفنا عنه التهاون في أدائها فإنّنا لا نطلق عليه ذلك اللقب. فهؤلاء المجرمون لم يكونوا من فئة المصلّين. ولْنقرأ القرآن الكريم؛ لنعرف أكثر عن هؤلاء المجرمين، ونعرف أكثر عن المصلّين. فأمّا المجرمون فمما قال الله فيهم: ﴿وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾ [سورة الشعراء: 99]، الذي يبدو منه أنّ المجرمين لهم باعٌ وخبرة في إضلال الناس، وكأنّهم بمنزلة أتباع الشيطان، الذي اكتسبوا صفة من صفاته؛ هي الإضلال، وفي آية أخرى يقول الله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [سورة الفرقان: 31]، فيبدو أنّ لقب (المجرمين) من ألقاب أعداء الأنبياء، ولعلّه يختصّ بهم، وربما يطلق هذا الوصف على المتوغّلين في معصية الله، بحيث أنّهم تصدّروا قائمة الأعداء للأنبياء والأئمّة وكانت لهم إمكانية الإضلال كما هو حال إبليس، فعليه وعليهم لعنة الله. وأمّا المصلّون؛ فقال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [سورة المعارج: 23-35]. من ذلك يتبيّن أنّ لقب (المصلّين) يطلق على أناس ذوي صفات كثيرة، منها: أداء الحقوق الشرعية من أموالهم، والتصديق بيوم القيامة، والخوف من عذاب الله، وحفظ الأنساب والأعراض وكيان الأسرة المسلمة بتجنّب محارم الله في ذلك والتزام حدوده، ومن صفاتهم أنّهم راعون للأمانات، وإذا ما دُعُوا للشهادة فإنّهم يؤدّونها على وجهها كما هي دون تغيير؛ فهؤلاء المصلّون. ثُمّ يبدو أنّ صفة (المصلّين) من جملة صفات المتّقين الذين قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة البقرة: 3-5]. وعلى ذلك يمكن القول: لعلّ في تعبير (المصلّين) دلالةً أوسع من أداء الصلاة وعدم تركها، فإذا عرفنا ذلك فلْنبحث عن هؤلاء -المصلّين- أكثر، لنرى كيف أصبحوا هكذا، ومَن هو قائدهم وإمامُهم؟ المعروف الذي لا غُبار عليه ولا غَرْوَ فيه: أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) هو إمام المتّقين، ومن ألقاب المتّقين (المصلّون)، فهو إمام المُصلّين، كيف؟ ورد في روايةٍ «عَنْ إِدْرِيسَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ تَفْسِيرِ هذِهِ الْآيَةِ: ﴿ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾، قَالَ: عَنى بِهَا لَمْ نَكُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- فِيهِمْ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، أَمَا تَرَى النَّاسَ يُسَمُّونَ الَّذِي يَلِي السَّابِقَ فِي الْحَلْبَةِ (مُصَلِّي)؟ فَذلِكَ الَّذِي عَنى؛ حَيْثُ قَالَ: ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾: لَمْ نَكُ مِنْ أَتْبَاعِ السَّابِقِينَ» [الكافي: ح1125]. المُصلّي من الخيل في السباق: هو الفائز الثاني؛ لأن الأوّل يسمّى (السابق)، والثاني هو (المصلّي)؛ من (الصَّلا)، وصَلا الفرس جانِبا ذَنَبِهِ، فالفرس الثاني يسمّى (مُصلّي)؛ لأنّ رأسه يبلغ أحد جانِبَيْ ذَنَبِ الفرس السابق، وفي هذا المعنى إشارة إلى مدى تقارب الفرس المصلّي من الفرس السابق، وكأنّه ملتصق به يتّبعه من أجل الفوز، لكنّه يعلم أنّه لا يمكنه التقدّم عليه، فيظلّ رأسه بجانب ذَنَبِ السابق. إذا تصوّرنا هذا المعنى في أخيلتنا؛ يمكننا الآن استيعاب قول الإمام الصادق (عليه السّلام)؛ وهو أنّ فئة (المصلّين) هم أتباع (السابقين)، والسابق –قد عرفنا منزلته- هو الأوّل، وهو الإمام، يتّبعه المصلّي، والسابقون هم الأئمّة (عليهم السّلام)؛ حيث قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [سورة الواقعة: 10-12]. إذن: فئة المصلّين هُم الأَتباع المخلصون للأئمّة السابقين، وقد سجّل التأريخ أمثلة كثيرة لهؤلاء الأتباع المخلصين، بدءاً من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ثمّ أصحاب الإمامين الهُمامين الحسن والحسين (عليهما السّلام)، إلى أصحاب الأئمّة التسعة من ولده (عليهم السّلام). وتطلق بعض الروايات على الأصحاب المقرّبين اصطلاح (الحواريّين)، ومعناه: الأنصار والصفوة من الأَتْباع، فعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السّلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: أين حواريّو محمد بن عبد اللّه رسول اللّه الّذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر، ثمّ ينادي منادٍ أين حواريّو عليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد بن عبد اللّه؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعيّ، ومحمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التّمّار مولى بني أسد، وأويس القرني، ثمّ ينادي مُنادٍ أين حواريّو الحسن بن علي؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني، وحذيفة بن أسيد الغفّاري، ثمّ ينادي مُنادٍ أين حواريّو الحسين بن علي؟ فيقوم كلّ من استشهد معه ولم يتخلّف عنه، ثمّ ينادي مُنادٍ أين حواريّو عليّ بن الحسين؟ فيقوم جبير بن مطعّم، ويحيى بن أمّ الطويل، وأبو خالد الكابُليّ، وسعيد بن المسيّب، ثمّ ينادي مُنادٍ: أين حواريّو محمد بن علي، وحواريّو جعفر بن محمد؟ فيقوم عبد اللّه بن شريك العامريّ، وزرارة بن أعيَن، وبريد بن معاوية العجليّ، ومحمّد بن مسلم، وأبو بصير ليث بن البختري المراديّ، وعبد اللّه بن أبي يعفور، وعامر بن عبد اللّه بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحُمران بن أعيَن، ثمّ ينادي سائر الشّيعة مع سائر الأئمّة (عليهم السلام) يوم القيّامة، فهؤلاء المتحوّرة أوّل السّابقين وأوّل المقرّبين، وأوّل المتحوّرين من التّابعين» [اختيار معرفة الرجال: ح20]. إنّ الناظر في هذه الأسماء الكبيرة يدرك أنّ للمصلّين مقاماً عالياً يتّصف به حواريّو المعصومين (عليهم السّلام). وفي المقابل نجد فئة أخرى يسمّيها القرآن الكريم بـ(المجرمين)، قد تساءل عنها أصحاب اليمين، هي فئة توغّلت في عداوة الأنبياء والأئمّة، ولا يخلو أمرُ القرآن الكريم من حكمة إلهية حين نقل تساؤلَ أصحاب اليمين عن المجرمين لا عن غيرهم، وقد مضى شطر من الكلام حول كلا الفئتين، وللعقل أن يتدبّر في أحوال الفئتين من خلال ما يقرأه من آيات القرآن الكريم. والحمدُ لله حمدَ الشاكرين له على نعمائه التي لا تُحصى.
ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر
جاري التحميل ...