أنت في الصفحة : بحوث

بحوث
تأملات تعبيرية في السياقات القرآنية
تأملات تعبيرية في السياقات القرآنية
الباحث : أ.م.د وفاء عباس فياض

تأريخ النشر : 2020-09-15 15:37:39

أ.د. وفاء عباس فياض الحلقة الرابعة:  جمع الألفاظ أو الصيغ ذات الدلالات المختلفة:- قد يأتي القرآن الكريم بالفعل ثم لا يأتي بمصدره بل يأتي بمصدر فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق فيجمع بين معنى الفعل ومعنى المصدر من أقرب طريق وأيسره وذلك نحو قوله تعالى:﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾(المزمل8)، فإنه جاء بالفعل (َتَبَتَّلْ) غير أنه لم يأتِ بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر هو (بتّل) وذلك أن مصدر (تبتل) هو (التبتل) فإنّ (تفعّـل) يكون على (التفعّـل) كتعّلم تعلّما وتقدّم تقدما. وأما (التبتّل) فهو مصدر بتّل لا تبتّل فإن (التفعيل) هو مصدر (فعّـل) كعلّم تعليماً وعظّم تعظيماً. وكان المتوقع أن يقول:((وتبتل إليه تبتلاً)) غير أنه لم يقل ذاك. وسبب ذلك أنه أراد أن يجمع بين معنيي التبتل والتبتيل وذلك أن تبتّل على وزن تفعّل و(تفعّل) يفيد التدرج والتكلف مثل تجسس وتحسس وتبصّر وتدرّج وتمشّى وغيرها. فإن في تجسس وتحسس وبقية الأفعال تدرّجا وتكلفاً. ألا ترى أن في (تبصّر) من والتدرج وإعادة النظر والتكلف ما ليس في (بصر) وفي (تمشّى) من التدرج ما ليس في (مشى)؟ وأما (فعّل) فيفيد التكثير والمبالغة وذلك نحو كسر وكسّر فإن في كسّر المضاعف من المبالغة والتكثير ما ليس في كَسَرَ الثلاثي فقولك:((كسّرت القلم)) يفيد أنك جعلته كسرة كسرة بخلاف ما إذا قلت: ((كسرت القلم)) فإنه يفيد أنك كسرته مرة واحدة. وكذلك قولك:((قطّع اللحم)) فإنه بفيد أنك جعلته قطعة قطعة بخلاف ما إذا قلت:((قطعت اللحم)) بلا تضعيف فإنه يفيد أنك قطعته مرة واحدة. وتقول:((موتت الابل)) إذا كثر فيها الموت، ولا يقال:((موّت البعير)) لأنه ليس في موت البعير تكثير. فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير وجمع المعنيين في عبارة واحدة موجزة ولو جاء بمصدر الفعل (تبتّل) فقال:﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾. لم يفد غير التكثير. ولكنه أراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما فهو بدل أن يقول:((وتبتل إليه تبتلاً وبتّل نفسك إليه تبتيلاً)) جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر ووضعهما وضعا فنيا فكسب المعنيين في آن واحد وهذا باب شريف جليل. وليس هذا كل شيء في هذا الجزء من الآية بل انظر الوضع الفني التربوي الآخر وهو أنه جاء بالفعل الدال على التدرج أولاً ثم بالمعنى الدال على الكثرة والمبالغة بعده وهو توجيه تربوي حكيم إذ الأصل أن يتدرج الإنسان من القلة إلى الكثرة والمعنى احمل نفسك على التبتل والانقطاع إلى الله في العبادة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الكثرة، والمعنى ابدأ بالتدرج في العبادة وانتهِ بالكثرة. وليس من الحكمة أن يضع الصيغة الدالة على الكثرة والمبالغة أولاً ثم يأتي بالصيغة الدالة على التدرج والتكلف فيما بعد بل الطريق الطبيعي أن يتدرج الإنسان في حمل النفس على الشيء من القلة إلى الكثرة والمبالغة حتى يكون وصفاً ثابتاً له. فهو وضعها وضعاً تربوياً أيضاً. ثم انظر كيف وضعها ربنا وضعاً فنياً عجيباً آخر فجاء للدلالة على معنى التدرج والحدوث بالصيغة الفعلية لأن الفعل يدل على الحدوث والتجدد فقال (وتبتل) ثم جاء للدلالة على معنى المبالغة والكثرة والثبوت بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والكثرة لأنها الحالة الثابتة المرادة في العبادة. أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار فجاء لكل معنى يناسبه. ومثله قوله تعالى:﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(النساء60)، والقياس أن يقول: (أن يضلهم إضلالاً بعيداً) لأن مصدر (أضل) الإضلال، أما الضلال فهو مصدر (ضلّ) قال تعالى:﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(النساء116)، والمعنى أن يُضلهم فيضلوا ضلالاً بعيدا وقد جمع المعنيين الاضلال والضلال في آن واحد. والمعنى أن الشيطان يريد أن يُضلهم ثم يريد بعد ذلك أن يضلوا هم بأنفسهم فالشيطان يبدأ المرحلة وهم يتمنونها. فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعون الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئن إلى أنهم يقومون بمهمته هو. ومثله في قوله تعالى في مريم (عليها السلام):﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾(آل عمران37)، والقياس أن يقول:( وأنبتها إنباتا)؛ لأن مصدر (انبت) الانبات أما النبات فهو مصدر نبت. والله تعالى أراد معنى أنبتها فنبتت أي أن مريم (عليها السلام) استجابت وفي هذا مدح لمعدنها الأصيل ففي نفسها الطاهرة قبول لهذا الأمر فالمعنى والله أعلم أنبتها فنبتت نباتاً حسناً وهذا ثناء من الله عليها ولو قال:((أنبتها إنباتاً)) لم يجعل لها فضلاً ولا مزية. ومن ذلك قوله تعالى:﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾( سورة البقرة245)، والقياس أن يقول:((يُقرض الله إقراضاً حسناً))؛ لأن مصدر (يُقرِض) الاقراض، أما القرض فهو مصدر يَقْرُض. فيقال في الثلاثي قَرَضَ يَقْرُض قرضاً وفي الرباعي أقرض يُقْرِض إقراضاً. وقوله تعالى: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾، جمع بين معنيين أحدهما المال الحسن أي ما يعطى وثانيها معنى المصدر أي الإقراض الحسن أي عملية الإقراض نفسها ومثله الأكل بمعنى المأكول أي ما يؤكل أو هو عملية الأكل نفسها فأراد سبحانه وتعالى أن يكون ما يعطى مالاً حسناً حلالاً طيباً قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾(سورة البقرة267)، أي لا تقصدوا المال الرديء المستكره فتنفقوا منه، وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الاقراض إقراضا حسناً أي أن عملية الإقراض تكون عن نفس راضية وأن لا يمن الرجل على مَنْ يقرضه، ومن هذا نتبين أن قوله تعالى:﴿ يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، جمع معنيين هما المال الحسن والإقراض الحسن ولو قال (( إقراضاً )) لكان المعنى واحداً. وقد يجمع القرآن الكريم بين صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى وذلك كقوله تعالى:﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾(الفاتحة2)، فإن الرحمن على وزن ( فعلان) والرحيم على وزن ( فعيل) فجمع بينهما وذلك أن صيغة ( فعلان) تدل على الخلو والامتلاء والصفات المتجددة وذلك نحو: عطشان وجوعان وغضبان ونحوهما فإن العطش في عطشان ليس صفة ثابتة بل يزول ويتحول وكذلك جوعان وغضبان بخلاف(فعيل) فإنه يدل على الثبوت وذلك نحو: كريم وبخيل وطويل وجميل فإن هذه الصفات ثابتة فليس (طويل) مثل (عطشان) في الوصف ولا (قبيح) مثل (جوعان). ودلالة هذا البناء على الحدوث بارزة في لغتنا الدارجة تقول: ((هو ضعفان)) إذا أردت الحدوث فإن أردت الثبوت قلت: ((هو ضعيف)) وكذلك هو سمنان وسمين. ألا ترى أنك تقول لصاحبك: ((أنت ضعفان)) فيرد عليك أنا منذ نشأتي ضعيف. وتقول له: ((أراك طولان)) فيقول: أنا طويل منذ الصغر. وهذا من أبرز ما يميز صيغة (فعلان) عن (فعيل) فإن صيغة (فعلان) تفيد الحدوث والتجدد، وصيغة (فعيل) تفيد الثبوت فجمع الله سبحانه وتعالى لذاته الوصفيين. إذ لو اقتصر على ( رحمن) لظن ظان أن هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريان. ولو اقتصر على (رحيم) لظن أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها إذ قد تمر على الكريم أوقات لا يكرم فيها وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك. والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال فجمع بينهما حتى يعلم العبد أن صفته الثابتة هي الرحمة وأن رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع حتى لا يستبد به الوهم بأن رحمته تعرض ثم تنقطع أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه – سبحانه- فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه.
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

جاري التحميل ...

حدث خطأ بالاتصال !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...

تأملات تعبيرية في السياقات القرآنية
Image 1
تاريخ النشر 2020-09-15

أ.د. وفاء عباس فياض الحلقة الرابعة:  جمع الألفاظ أو الصيغ ذات الدلالات المختلفة:- قد يأتي القرآن الكريم بالفعل ثم لا يأتي بمصدره بل يأتي بمصدر فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق فيجمع بين معنى الفعل ومعنى المصدر من أقرب طريق وأيسره وذلك نحو قوله تعالى:﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾(المزمل8)، فإنه جاء بالفعل (َتَبَتَّلْ) غير أنه لم يأتِ بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر هو (بتّل) وذلك أن مصدر (تبتل) هو (التبتل) فإنّ (تفعّـل) يكون على (التفعّـل) كتعّلم تعلّما وتقدّم تقدما. وأما (التبتّل) فهو مصدر بتّل لا تبتّل فإن (التفعيل) هو مصدر (فعّـل) كعلّم تعليماً وعظّم تعظيماً. وكان المتوقع أن يقول:((وتبتل إليه تبتلاً)) غير أنه لم يقل ذاك. وسبب ذلك أنه أراد أن يجمع بين معنيي التبتل والتبتيل وذلك أن تبتّل على وزن تفعّل و(تفعّل) يفيد التدرج والتكلف مثل تجسس وتحسس وتبصّر وتدرّج وتمشّى وغيرها. فإن في تجسس وتحسس وبقية الأفعال تدرّجا وتكلفاً. ألا ترى أن في (تبصّر) من والتدرج وإعادة النظر والتكلف ما ليس في (بصر) وفي (تمشّى) من التدرج ما ليس في (مشى)؟ وأما (فعّل) فيفيد التكثير والمبالغة وذلك نحو كسر وكسّر فإن في كسّر المضاعف من المبالغة والتكثير ما ليس في كَسَرَ الثلاثي فقولك:((كسّرت القلم)) يفيد أنك جعلته كسرة كسرة بخلاف ما إذا قلت: ((كسرت القلم)) فإنه يفيد أنك كسرته مرة واحدة. وكذلك قولك:((قطّع اللحم)) فإنه بفيد أنك جعلته قطعة قطعة بخلاف ما إذا قلت:((قطعت اللحم)) بلا تضعيف فإنه يفيد أنك قطعته مرة واحدة. وتقول:((موتت الابل)) إذا كثر فيها الموت، ولا يقال:((موّت البعير)) لأنه ليس في موت البعير تكثير. فالله سبحانه جاء بالفعل لمعنى التدرج ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر هو التكثير وجمع المعنيين في عبارة واحدة موجزة ولو جاء بمصدر الفعل (تبتّل) فقال:﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾. لم يفد غير التكثير. ولكنه أراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعهما فهو بدل أن يقول:((وتبتل إليه تبتلاً وبتّل نفسك إليه تبتيلاً)) جاء بالفعل لمعنى ثم جاء بالمصدر لمعنى آخر ووضعهما وضعا فنيا فكسب المعنيين في آن واحد وهذا باب شريف جليل. وليس هذا كل شيء في هذا الجزء من الآية بل انظر الوضع الفني التربوي الآخر وهو أنه جاء بالفعل الدال على التدرج أولاً ثم بالمعنى الدال على الكثرة والمبالغة بعده وهو توجيه تربوي حكيم إذ الأصل أن يتدرج الإنسان من القلة إلى الكثرة والمعنى احمل نفسك على التبتل والانقطاع إلى الله في العبادة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الكثرة، والمعنى ابدأ بالتدرج في العبادة وانتهِ بالكثرة. وليس من الحكمة أن يضع الصيغة الدالة على الكثرة والمبالغة أولاً ثم يأتي بالصيغة الدالة على التدرج والتكلف فيما بعد بل الطريق الطبيعي أن يتدرج الإنسان في حمل النفس على الشيء من القلة إلى الكثرة والمبالغة حتى يكون وصفاً ثابتاً له. فهو وضعها وضعاً تربوياً أيضاً. ثم انظر كيف وضعها ربنا وضعاً فنياً عجيباً آخر فجاء للدلالة على معنى التدرج والحدوث بالصيغة الفعلية لأن الفعل يدل على الحدوث والتجدد فقال (وتبتل) ثم جاء للدلالة على معنى المبالغة والكثرة والثبوت بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والكثرة لأنها الحالة الثابتة المرادة في العبادة. أما حالة التدرج فهي حالة موقوتة يراد منها الانتقال لا الاستمرار فجاء لكل معنى يناسبه. ومثله قوله تعالى:﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(النساء60)، والقياس أن يقول: (أن يضلهم إضلالاً بعيداً) لأن مصدر (أضل) الإضلال، أما الضلال فهو مصدر (ضلّ) قال تعالى:﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(النساء116)، والمعنى أن يُضلهم فيضلوا ضلالاً بعيدا وقد جمع المعنيين الاضلال والضلال في آن واحد. والمعنى أن الشيطان يريد أن يُضلهم ثم يريد بعد ذلك أن يضلوا هم بأنفسهم فالشيطان يبدأ المرحلة وهم يتمنونها. فهو يريد منهم المشاركة في أن يبتدعون الضلال ويذهبوا فيه كل مذهب. يريد أن يطمئن إلى أنهم يقومون بمهمته هو. ومثله في قوله تعالى في مريم (عليها السلام):﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾(آل عمران37)، والقياس أن يقول:( وأنبتها إنباتا)؛ لأن مصدر (انبت) الانبات أما النبات فهو مصدر نبت. والله تعالى أراد معنى أنبتها فنبتت أي أن مريم (عليها السلام) استجابت وفي هذا مدح لمعدنها الأصيل ففي نفسها الطاهرة قبول لهذا الأمر فالمعنى والله أعلم أنبتها فنبتت نباتاً حسناً وهذا ثناء من الله عليها ولو قال:((أنبتها إنباتاً)) لم يجعل لها فضلاً ولا مزية. ومن ذلك قوله تعالى:﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾( سورة البقرة245)، والقياس أن يقول:((يُقرض الله إقراضاً حسناً))؛ لأن مصدر (يُقرِض) الاقراض، أما القرض فهو مصدر يَقْرُض. فيقال في الثلاثي قَرَضَ يَقْرُض قرضاً وفي الرباعي أقرض يُقْرِض إقراضاً. وقوله تعالى: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾، جمع بين معنيين أحدهما المال الحسن أي ما يعطى وثانيها معنى المصدر أي الإقراض الحسن أي عملية الإقراض نفسها ومثله الأكل بمعنى المأكول أي ما يؤكل أو هو عملية الأكل نفسها فأراد سبحانه وتعالى أن يكون ما يعطى مالاً حسناً حلالاً طيباً قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾(سورة البقرة267)، أي لا تقصدوا المال الرديء المستكره فتنفقوا منه، وأراد سبحانه وتعالى أن يكون الاقراض إقراضا حسناً أي أن عملية الإقراض تكون عن نفس راضية وأن لا يمن الرجل على مَنْ يقرضه، ومن هذا نتبين أن قوله تعالى:﴿ يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، جمع معنيين هما المال الحسن والإقراض الحسن ولو قال (( إقراضاً )) لكان المعنى واحداً. وقد يجمع القرآن الكريم بين صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى وذلك كقوله تعالى:﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾(الفاتحة2)، فإن الرحمن على وزن ( فعلان) والرحيم على وزن ( فعيل) فجمع بينهما وذلك أن صيغة ( فعلان) تدل على الخلو والامتلاء والصفات المتجددة وذلك نحو: عطشان وجوعان وغضبان ونحوهما فإن العطش في عطشان ليس صفة ثابتة بل يزول ويتحول وكذلك جوعان وغضبان بخلاف(فعيل) فإنه يدل على الثبوت وذلك نحو: كريم وبخيل وطويل وجميل فإن هذه الصفات ثابتة فليس (طويل) مثل (عطشان) في الوصف ولا (قبيح) مثل (جوعان). ودلالة هذا البناء على الحدوث بارزة في لغتنا الدارجة تقول: ((هو ضعفان)) إذا أردت الحدوث فإن أردت الثبوت قلت: ((هو ضعيف)) وكذلك هو سمنان وسمين. ألا ترى أنك تقول لصاحبك: ((أنت ضعفان)) فيرد عليك أنا منذ نشأتي ضعيف. وتقول له: ((أراك طولان)) فيقول: أنا طويل منذ الصغر. وهذا من أبرز ما يميز صيغة (فعلان) عن (فعيل) فإن صيغة (فعلان) تفيد الحدوث والتجدد، وصيغة (فعيل) تفيد الثبوت فجمع الله سبحانه وتعالى لذاته الوصفيين. إذ لو اقتصر على ( رحمن) لظن ظان أن هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريان. ولو اقتصر على (رحيم) لظن أن هذه صفة ثابتة ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها إذ قد تمر على الكريم أوقات لا يكرم فيها وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك. والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال فجمع بينهما حتى يعلم العبد أن صفته الثابتة هي الرحمة وأن رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع حتى لا يستبد به الوهم بأن رحمته تعرض ثم تنقطع أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه – سبحانه- فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه.

لا توجد اي صور متوفرة حاليا.