أنت في الصفحة : بحوث
تأريخ النشر : 2018-09-08 10:40:31
أنت في الصفحة : بحوث
جاري التحميل ...
م.م. ضحى ثامر الجبوري يُعد التفاعل من أكثر المفاهيم انتشارًا في الاوساط الاجتماعية، فهو يتناول دراسة كيفية تفاعل الفرد مع الموقف واستجابته، وسبب هذا التفاعل مؤثر ذو قوة تأثيرية اقناعية. ويعد النصّ القرآنيّ نوعًا من المؤثرات التي ينتج منها تغيّر الاطراف الداخلة في التفاعل معه؛ إذ يُؤدِّي الى تعديل حياتهم وتحسين سلوكهم عبر خطاباته التوجيهيّة. ولو راجعنا الدستور القرآني لرأينا في أوّل وقفة به أنه يبتدئ بكلمة الله ويختتم بكلمة الناس، اذ الخطاب القرآني قائم بين المتكلم وهو الذات الالهية والمتلقي الآخر المختلف المراد ائتلافه مع المتكلم، فالمخاطبون في الكتاب العزيز هم الناس دائماً، وهذا يحمل دلالة أن هذا الكتاب ما هو الا صف واحد قوامه (الله والناس)، فمن الناحية الاجتماعية وبقية المسائل المتعلقة بالحياة نستطيع استبدال كلمة (الله) بكلمة (الناس) وبالعكس، ففي قوله تعالى:إِن تُقْرِضُوا الله قَرْضًا حَسَنًا (التغابن:17)، فالله تعالى لا يحتاج الى من يقرضه قرضاً حسناً وهو الغني عن العالمين! بل المقصود هم الناس، وهذا التفاعل مستبين في كثير من الآيات القرآنية التي تعالج المسائل والاتجاهات الاجتماعية. ويتجلى التفاعل في الخطاب القرآني في مدى استجابة الآخر(الناس) مع المتكلم (الذات الالهية)، فيتبيّن موقف الآخر المختلف في مدى انسجامهِ مع توجيهات النّصِّ المُقدّس الذي يكتب له الحياة الهادئة ذات النظام المتين، إذ اساسه النصّ القرآنيّ، فخطاباته تتضمن نوعاً من النّشاط الذي تستثيره حاجات معينة عند الانسان ومنها الحاجة الى الحب، ففي قوله تعالى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (العاديات:8) ، ما هو الا اشارة الى مدى إسهام القرآن الكريم في تهذيب فطرة الحب بكل تجلياته، لأنه يدخل في تركيبة النفس الانسانية بوصف هذه الصفة هي مركز الكون الذي يُضفي الشعور بالانسجام مهما كان حجم الاختلاف وتعدده في المجتمع، إذ إن عاطفة الانسان تتغلب على الصراعات الداخلية كافة، فهي لها أثر في تذويب كثير من الاشكالات الاجتماعية، فالحبُّ صور من صور التفاعل بين الناس؛ لأنه ذو صور متعددة ترجع للإنسان بالمنفعة، والفضل، والارادة والابتغاء، ومنه ما يكون للذة (ينظر: مفردات غريب القرآن/214). وقد أشار القرآن إلى هذه الصور في مواضع متعددة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم :21 )، فهي تدعو الآخر للتفاعل والعمل بمضمونها . وفي حالة تفاعلية استدللنا بها عبر القرآن الكريم الا وهي روح التسامح، أن تتغاضى عن أخطاء غيرك أو التساهل في الحق وهو كرم وسخاء وهذه الصفة ليست فطرية في الآخر وانما منحة ربانية يوظفها للمؤتلف معه؛ لأنه "نوع من الكرم والتفضيل والجود وليس حقًا يستحقه الآخر، فهو لا يعني منح الحق في الحرية الدينية ، وانما هو مجرد سخاء بها من موقع استعلائي" (التسامح ومنابع اللاتسامح، مجلة قضايا اسلامية معاصرة :23) ، وهذا ما أكّد عليه النصّ القرآنيّ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (الجاثية: 14)، وقوله أيضا: وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة : 237). وفي هاتين الآيتين تنويه على سيميائية التسامح مع الآخر المختلف ليجعل منه آخر مؤتلف يتخذ من العفو والتسامح اداة للعمل والتعايش السلميّ. وقد تعددت الخطابات في النص القرآني كخطابه الدعوي وهو ما نزلت آياته في بداية الدعوة تدعو الآخر لتلبية الدعوة والتبليغ من دون اجبار كدعوته قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (يونس 108). فالأمر الرباني منوط بمدى استجابة المرسل اليه (المتلقي) بالقبول أو الرفض، فهو يترك حرية الاستجابة له، وفي نصٍّ آخر وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف: 29). تحقق الآية احتواء مغاير للآخر والاعتراف بكينونته من دون قمع وضغط، فالخطاب القرآني افصح عن الوعي الكبير الذي نجح في مواجهة الآخر المختلف والمؤتلف معه عبر صيغ التعامل والتفاعل. وهناك خطاب تفاعلي يدعو الآخر للتفاعل مع الاحداث الجارية عبر "المشاركة الفعلية في الصفات والسلوك او الحوادث والأفعال، سواء أكانت هذه المشاركة تحمل طابعاً سلبياً أم ايجابياً كيفما يقتضيه الآخر ووجهة النظر اليه" (صورة الآخر في الخطاب القرآني دراسة جمالية نقدية :126) ، ففي قوله تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الاعراف: 88). هذا النص ما هو الا جزء من الخطاب الكُلّيّ الموجّه من الله تعالى الى الناس، وسياق هذا النص يتضمن مشاركة فعلية خطابية بين النبي شعيب وقومه دعاهم الى التسامي الروحي عندها تلقّى الجواب الاقصائي بالإخراج من دياره، فغاية التفاعل بين الاثنين بيّنت سمة تراتبية الارتقاء الروحي الذي دعاهم اليه شعيب، وسمة القبح والنكوص من لدن قومه، ويتّضح من هذا التوجيه القرآنيّ المنحى الاخلاقيّ للناس. ويوجه الخطاب التشريعي سلوك الآخر داخل المجتمع نحو الارتقاء الحياتي مستمدينه من الشرائع التي سنّها القرآن العظيم للحد من بعض المواصفات المذمومة من ذلك ما جاء في الخطاب القرآني وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ(المائدة : 38 ). فالحكم الشرعي جاء لمعاقبة الآخر عقابًا ذاتيًّا بقطع جزء من أجزاء الجسد(ينظر: الشخصية السليمة:217). إن هذه العملية تترك آثارًا وأفكارًا داخل نفسية المتلقي تجعله يقشعر من التفكير بهذا العمل، وكثير من الآيات القرآنية التي تحمل لنا شرائع تعمل على تنظيم المجتمع بطريقة الخطاب، ولكن المقام لا يسعنا للشرح المفصّل عن الشرائع الرّبانيّة كافة. وأخيرا: نخرج من مطاف الخطابات في النصِّ القرآنيّ التي دعت الى تفاعلية الآخر، وجعلت منه أداة توظيفية لمضامين تلك الخطابات كافة وجميعها تساهم في بلورة الفكر الإنسانيّ نحو الارتقاء في بناء مجتمع إسلاميّ متين.
ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر
جاري التحميل ...