أنت في الصفحة : بحوث

بحوث
تأملات تعبيرية في السِّياقات القُرآنيّة الحلقة الأولى ج2
تأملات تعبيرية في السِّياقات القُرآنيّة الحلقة الأولى ج2
الباحث : أ.م.د. وفاء عبّاس فياض

تأريخ النشر : 2018-11-28 09:23:14

أ.م.د. وفاء عبّاس فياض نتابع في الجزء الثاني من الحلقة الأولى موضوع التوسّع في المعنى وسنتابع بسط الأمثلة عليه ولاسيما حول موضوع (الجمع بين عطفين متغايرين). قال تعالى:﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾(الإسراء19)، وقال تعالى:﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران145). وذلك لأن إرادة الآخرة أمر واحد فجاء بالفعل الماضي بخلاف (إرادة الثواب) فإن ارادة الثواب تتجدد لأن الثواب يتجدد بخلاف الآخرة فإنها واحدة، وهذا السّر في أنه قال (ومن أراد الآخرة) بالفعل الماضي لكنه قال (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ) بالمضارع. وقال تعالى:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾(إبراهيم34، النحل18)، وقال تعالى:﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾(الأنفال19)، وقال تعالى:﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾(الإسراء8)، فجاء في الآية الأولى بالمضارع (تعودوا) وفي الآية الثانية بالماضي (عدتم) وذلك أن الآية الأولى نزلت بعد معركة بدر في كفار قريش وهو تهديد للمشركين وإشعار للمؤمنين بأن المشركين سيكررون العودة إلى القتال وهو ما حصل، وأخبرهم بأن الله سيعود إلى نصر المؤمنين وسحق باطل الكافرين. وأما الآية الثانية فنزلت في بني إسرائيل وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين فأخبر بأن لهم عودة بعد تلك المرة فجاء بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد بخلاف الثانية. وقال تعالى:﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾(الكهف76)، لأنه سيحصل الفراق بعد سؤال واحد. وقال تعالى:﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾(محمد37)، وهذا في سؤال الأموال وهو يتجدد بتجددها فجاء في المتجدد بالفعل المضارع وفي غيره بالفعل الماضي. وقال تعالى:﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ بصيغة الفعل المضارع أي إذا تكرر الالتهاء فالخسارة كبيرة جدا قال تعالى:﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ فهم خاسرون لأنهم يبحثون عن الأموال من أجل الربح. وانظر كيف جاء بضمير الفعل فقال:﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ليؤكد بأن خسارتهم خسارة عظيمة ولو قال(أولئك الخاسرون) بغير ضمير الفصل لكانت الخسارة أقل لكنه أتى بضمير الفصل من أجل القصر فهذه الخسارة هي الخسارة الكبرى وليس أخسر منها شيء. وقال تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وهذا يقابل قوله تعالى:﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ وذلك أنه سبحانه وتعالى حين نهى عن الالتهاء بالأموال عن طريق الانشغال بها بالقلب والجارحة قال في مقابلها (وانفقوا) لأن الانفاق اخراج المال من اليد، وكأنه أخرج المال من قلبه بيده وأعطاه. وليس هذا كل شيء لأن قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ يقابل أيضا قوله تعالى في السورة نفسها:﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾(المنافقون7). ويلحظ أنه قال( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولم يقل(وَأَنْفِقُوا مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي جاء بـ(من) التبعيضية، فالله عزّ وجل لم يأمر عباده بإنفاق جميع أموالهم بل أراد جزءاً منها ولو أنه سبحانه سألهم جميع أموالهم لشق ذلك عليهم قال تعالى:﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ* إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا﴾(محمد36-37). ولننظر إلى قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ مرة أخرى نجد أنه سبحانه أسند الرزق إلى نفسه فقال(مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وذلك متى تطيب نفس المنفق عند اخراج المال من يده لأن المال مال الله فهو المُعطي والله تعالى يسند الخير إلى نفسه ومن ذلك مثلاً أنه لا يبني النعم للمجهول قال تعالى:﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾(الإسراء83) فقال (أنعمنا) أي أنه أسند النعمة إلى نفسه والخير إلى نفسه وقال:(وإذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) ولم يقل:(وإذا مسسناه بالشر) مثل (أنعمنا) فهو يسند الخير إلى نفسه. ولننظر مرة أخرى إلى قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ فقال(من قبل) ولم يقل:(قبل)؟ ذلك لأن (من) ابتدائية وتفيد ابتداء الغاية أي أن البدء من هنا وثمة فرق بين قولنا: من فوق وفوق؛ لأن فوق تدل على ابتداء الشيء أي منه يكون المبتدأ بالأمر أما فوق فتحتمل الأمرين قال تعالى:﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾(الحج19) ومعنى ذلك أنه لا فاصل هنالك بين رؤوسهم وبين الحميم أي أن الحميم يباشر رؤوسهم. فإذا دخلت (من) على الظروف أفادت الابتداء، قال تعالى:﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾(فصلت5)، فلو قيل (بيننا وبينك حجاب) لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين وأما زيادة (من) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منّا وابتدأ منك فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك يستوعبه بالحجاب لا فراغ فيها. ولهذا قال تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ولو أنه قال ((قبل أن يأتي أحدكم الموت)) بغير (من) لجعل مسافة بين الموت والانفاق. والحق أن الموت محدق بالإنسان فهو يتوقع الموت في كل لحظة أينما كان فلا يعلم الإنسان وقت أجله، ولعل لحظة من لحظات الحياة هي لحظة الموت ولو أنه قال:(قبل أن يأتي أحدكم الموت) بغير (من) لجعل متنفسا وهذا المتنفس غير معلوم وغير محدد لذلك قال تعالى:﴿مِنْ قَبْلِ﴾ وفي هذا اهابة للإنسان أن لا يترك عمل الخير وأن لا يؤجل التوبة؛ لأنه لا يعلم وقت الموت. ولننظر مرة أخرى في قوله تعالى:﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ويلحظ أنه قدّم المفعول به (أحدكم) على الفاعل (الموت) وسبب ذلك لأن المفعول به هو المهم في المعنى لأنه هو المتقدم وهو المتحسّر وهو المكلف وهو الذي يقول:﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾(المؤمنون99) وهو الذي يطلب المهلة قال تعالى:﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. ويلحظ أنه جاء بالفاء في قوله (فيقول) ولم يأتِ مثلا بـ(ثم) أو(الواو)؟ وذلك لأن الفاء تفيد العطف والسبب معا. ولننظر مرة أخرى في قوله تعالى:﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. فيلحظ أنه قال (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي) فاستعمل (لولا) ولم يستعمل (لو) وسبب ذلك أن (لو) تستعمل في العرض والطلب برفق ولين في حين تفيد (لولا) التحضيض وهو الطلب بشدة وإلحاح والإنسان في الآية الكريمة ملح في طلبه ولا تناسبه (لو) التي تفيد الطلب برفق ولين. أضف إلى ذلك أن (لو) قد تأتي للتمني والتمني يكون في أمر ميؤوس منه. وقد يكون التمني في حال العافية ولكن الإنسان في الآية الكريمة ليس متمنيا بل هو طالب ملح في طلبه لذلك استعمل (لولا) و(لولا) إذا دخلت على الفعل الماضي فإنه قد يراد به الاستقبال وقد تكون(لولا) للتنديم فقوله تعالى:﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ فيه إلحاح وندم لأن المحظور قد وقع فالموت قد حصل. ويلحظ أنه قال:﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ بإثبات الياء في حين قال تعالى على لسان ابليس:﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾(الإسراء62) بإسقاط الياء؟ وسبب ذلك أن الإنسان في الآية الأولى يطلب التأخير لنفسه فهو يتكلم عن نفسه، في حين طلب ابليس التأخير ليس من أجله هو إنما من أجل أن يحتنك ذرية آدم وقد ناسب اسقاط الياء والاجتزاء بالكسرة عنها وجود الضمير في ذريته. ويلحظ أنه قال:﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ ولم يقل(إلى أجل) وجواب ذلك أنه قيّده بالأجل القريب لأن هذا الإنسان كان يتقلّب في الدنيا طوال حياته ولا يفكر بأمر آخرته فكان عنده متسع من الوقت لكنه –الآن- يطلب وقتا قليلا. ويلحظ أنه قال:﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ﴾ فالفعل (أصدقَ) منصوب بفاء السببية في حين أن (أكنْ) مجزوم فعطف مجزوما على منصوب وهذا قليل في الاستعمال ويسمونه العطف على المعنى في القرآن الكريم. أي أنه عطف (أكنْ) المجزوم على (أصدّقَ) المنصوب وهو عطف على المعنى وذلك أن المعطوف عليه يراد به السبب والمعطوف لا يراد به السبب فإن (أصّدّق) منصوب على فاء السبب، وأما المعطوف فليس على تقدير الفاء ولو أراد السبب لنصب ولكنه جزم لأنه جواب الطلب ونظير ذلك قولنا:(هل تدلني على بيتك أزرْك) كأنه قال: إن تدلني على بيتك أزرْك، فجمع بين معنيين التعليل والشرط. ولكن لِمَ لمْ يجعل الفعلين على نسق واحد ويجعل العطف طبيعياً كما هو مألوف؟ وسبب ذلك أننا لدينا أمران أحدهما (أصدّق) أي انفق الصدقة في سبيل الله وثانيهما (وأكنْ من الصالحين) أي على إرادة الصلاح ولكن أي الأمرين ينجيه من النار. لا شك في أن الصلاح هو الذي ينجيه، قال تعالى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾(المؤمنون99-100) ولما كان في هذه الآية التي نحن بصددها المقام مقام انفاق وذكر الأموال جاء بالصدقة لأن ذكرها يقتضيه السياق والمقام إلا أن النجاة تكون في الصلاح فالصدقة والصلاح ليستا بدرجة واحدة، فالصلاح هو الذي ينجيه ويدخله الجنة ولو كان العطف مألوفا أي مثل جاء محمدٌ وعليٌ لجعل الصدقة بمنزلة الصلاح وهذا لا يكون؛ لأن الصدقة ليست بمنزلة الصلاح ولما كان الصلاح أهم من الصدقة ذكره بأسلوب الشرط فقال: (وأكنْ من الصالحين) فصار عندنا توسّع في المعنى بسبب العطف على المعنى.
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

جاري التحميل ...

حدث خطأ بالاتصال !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...

تأملات تعبيرية في السِّياقات القُرآنيّة الحلقة الأولى ج2
Image 1
تاريخ النشر 2018-11-28

أ.م.د. وفاء عبّاس فياض نتابع في الجزء الثاني من الحلقة الأولى موضوع التوسّع في المعنى وسنتابع بسط الأمثلة عليه ولاسيما حول موضوع (الجمع بين عطفين متغايرين). قال تعالى:﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾(الإسراء19)، وقال تعالى:﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران145). وذلك لأن إرادة الآخرة أمر واحد فجاء بالفعل الماضي بخلاف (إرادة الثواب) فإن ارادة الثواب تتجدد لأن الثواب يتجدد بخلاف الآخرة فإنها واحدة، وهذا السّر في أنه قال (ومن أراد الآخرة) بالفعل الماضي لكنه قال (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ) بالمضارع. وقال تعالى:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾(إبراهيم34، النحل18)، وقال تعالى:﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾(الأنفال19)، وقال تعالى:﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾(الإسراء8)، فجاء في الآية الأولى بالمضارع (تعودوا) وفي الآية الثانية بالماضي (عدتم) وذلك أن الآية الأولى نزلت بعد معركة بدر في كفار قريش وهو تهديد للمشركين وإشعار للمؤمنين بأن المشركين سيكررون العودة إلى القتال وهو ما حصل، وأخبرهم بأن الله سيعود إلى نصر المؤمنين وسحق باطل الكافرين. وأما الآية الثانية فنزلت في بني إسرائيل وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين فأخبر بأن لهم عودة بعد تلك المرة فجاء بالمضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد بخلاف الثانية. وقال تعالى:﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾(الكهف76)، لأنه سيحصل الفراق بعد سؤال واحد. وقال تعالى:﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾(محمد37)، وهذا في سؤال الأموال وهو يتجدد بتجددها فجاء في المتجدد بالفعل المضارع وفي غيره بالفعل الماضي. وقال تعالى:﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ بصيغة الفعل المضارع أي إذا تكرر الالتهاء فالخسارة كبيرة جدا قال تعالى:﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ فهم خاسرون لأنهم يبحثون عن الأموال من أجل الربح. وانظر كيف جاء بضمير الفعل فقال:﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ليؤكد بأن خسارتهم خسارة عظيمة ولو قال(أولئك الخاسرون) بغير ضمير الفصل لكانت الخسارة أقل لكنه أتى بضمير الفصل من أجل القصر فهذه الخسارة هي الخسارة الكبرى وليس أخسر منها شيء. وقال تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وهذا يقابل قوله تعالى:﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ وذلك أنه سبحانه وتعالى حين نهى عن الالتهاء بالأموال عن طريق الانشغال بها بالقلب والجارحة قال في مقابلها (وانفقوا) لأن الانفاق اخراج المال من اليد، وكأنه أخرج المال من قلبه بيده وأعطاه. وليس هذا كل شيء لأن قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ يقابل أيضا قوله تعالى في السورة نفسها:﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾(المنافقون7). ويلحظ أنه قال( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولم يقل(وَأَنْفِقُوا مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي جاء بـ(من) التبعيضية، فالله عزّ وجل لم يأمر عباده بإنفاق جميع أموالهم بل أراد جزءاً منها ولو أنه سبحانه سألهم جميع أموالهم لشق ذلك عليهم قال تعالى:﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ* إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا﴾(محمد36-37). ولننظر إلى قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ مرة أخرى نجد أنه سبحانه أسند الرزق إلى نفسه فقال(مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وذلك متى تطيب نفس المنفق عند اخراج المال من يده لأن المال مال الله فهو المُعطي والله تعالى يسند الخير إلى نفسه ومن ذلك مثلاً أنه لا يبني النعم للمجهول قال تعالى:﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾(الإسراء83) فقال (أنعمنا) أي أنه أسند النعمة إلى نفسه والخير إلى نفسه وقال:(وإذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) ولم يقل:(وإذا مسسناه بالشر) مثل (أنعمنا) فهو يسند الخير إلى نفسه. ولننظر مرة أخرى إلى قوله تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ فقال(من قبل) ولم يقل:(قبل)؟ ذلك لأن (من) ابتدائية وتفيد ابتداء الغاية أي أن البدء من هنا وثمة فرق بين قولنا: من فوق وفوق؛ لأن فوق تدل على ابتداء الشيء أي منه يكون المبتدأ بالأمر أما فوق فتحتمل الأمرين قال تعالى:﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾(الحج19) ومعنى ذلك أنه لا فاصل هنالك بين رؤوسهم وبين الحميم أي أن الحميم يباشر رؤوسهم. فإذا دخلت (من) على الظروف أفادت الابتداء، قال تعالى:﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾(فصلت5)، فلو قيل (بيننا وبينك حجاب) لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين وأما زيادة (من) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منّا وابتدأ منك فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك يستوعبه بالحجاب لا فراغ فيها. ولهذا قال تعالى:﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ولو أنه قال ((قبل أن يأتي أحدكم الموت)) بغير (من) لجعل مسافة بين الموت والانفاق. والحق أن الموت محدق بالإنسان فهو يتوقع الموت في كل لحظة أينما كان فلا يعلم الإنسان وقت أجله، ولعل لحظة من لحظات الحياة هي لحظة الموت ولو أنه قال:(قبل أن يأتي أحدكم الموت) بغير (من) لجعل متنفسا وهذا المتنفس غير معلوم وغير محدد لذلك قال تعالى:﴿مِنْ قَبْلِ﴾ وفي هذا اهابة للإنسان أن لا يترك عمل الخير وأن لا يؤجل التوبة؛ لأنه لا يعلم وقت الموت. ولننظر مرة أخرى في قوله تعالى:﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ويلحظ أنه قدّم المفعول به (أحدكم) على الفاعل (الموت) وسبب ذلك لأن المفعول به هو المهم في المعنى لأنه هو المتقدم وهو المتحسّر وهو المكلف وهو الذي يقول:﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾(المؤمنون99) وهو الذي يطلب المهلة قال تعالى:﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. ويلحظ أنه جاء بالفاء في قوله (فيقول) ولم يأتِ مثلا بـ(ثم) أو(الواو)؟ وذلك لأن الفاء تفيد العطف والسبب معا. ولننظر مرة أخرى في قوله تعالى:﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. فيلحظ أنه قال (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي) فاستعمل (لولا) ولم يستعمل (لو) وسبب ذلك أن (لو) تستعمل في العرض والطلب برفق ولين في حين تفيد (لولا) التحضيض وهو الطلب بشدة وإلحاح والإنسان في الآية الكريمة ملح في طلبه ولا تناسبه (لو) التي تفيد الطلب برفق ولين. أضف إلى ذلك أن (لو) قد تأتي للتمني والتمني يكون في أمر ميؤوس منه. وقد يكون التمني في حال العافية ولكن الإنسان في الآية الكريمة ليس متمنيا بل هو طالب ملح في طلبه لذلك استعمل (لولا) و(لولا) إذا دخلت على الفعل الماضي فإنه قد يراد به الاستقبال وقد تكون(لولا) للتنديم فقوله تعالى:﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ فيه إلحاح وندم لأن المحظور قد وقع فالموت قد حصل. ويلحظ أنه قال:﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾ بإثبات الياء في حين قال تعالى على لسان ابليس:﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾(الإسراء62) بإسقاط الياء؟ وسبب ذلك أن الإنسان في الآية الأولى يطلب التأخير لنفسه فهو يتكلم عن نفسه، في حين طلب ابليس التأخير ليس من أجله هو إنما من أجل أن يحتنك ذرية آدم وقد ناسب اسقاط الياء والاجتزاء بالكسرة عنها وجود الضمير في ذريته. ويلحظ أنه قال:﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ ولم يقل(إلى أجل) وجواب ذلك أنه قيّده بالأجل القريب لأن هذا الإنسان كان يتقلّب في الدنيا طوال حياته ولا يفكر بأمر آخرته فكان عنده متسع من الوقت لكنه –الآن- يطلب وقتا قليلا. ويلحظ أنه قال:﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ﴾ فالفعل (أصدقَ) منصوب بفاء السببية في حين أن (أكنْ) مجزوم فعطف مجزوما على منصوب وهذا قليل في الاستعمال ويسمونه العطف على المعنى في القرآن الكريم. أي أنه عطف (أكنْ) المجزوم على (أصدّقَ) المنصوب وهو عطف على المعنى وذلك أن المعطوف عليه يراد به السبب والمعطوف لا يراد به السبب فإن (أصّدّق) منصوب على فاء السبب، وأما المعطوف فليس على تقدير الفاء ولو أراد السبب لنصب ولكنه جزم لأنه جواب الطلب ونظير ذلك قولنا:(هل تدلني على بيتك أزرْك) كأنه قال: إن تدلني على بيتك أزرْك، فجمع بين معنيين التعليل والشرط. ولكن لِمَ لمْ يجعل الفعلين على نسق واحد ويجعل العطف طبيعياً كما هو مألوف؟ وسبب ذلك أننا لدينا أمران أحدهما (أصدّق) أي انفق الصدقة في سبيل الله وثانيهما (وأكنْ من الصالحين) أي على إرادة الصلاح ولكن أي الأمرين ينجيه من النار. لا شك في أن الصلاح هو الذي ينجيه، قال تعالى:﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾(المؤمنون99-100) ولما كان في هذه الآية التي نحن بصددها المقام مقام انفاق وذكر الأموال جاء بالصدقة لأن ذكرها يقتضيه السياق والمقام إلا أن النجاة تكون في الصلاح فالصدقة والصلاح ليستا بدرجة واحدة، فالصلاح هو الذي ينجيه ويدخله الجنة ولو كان العطف مألوفا أي مثل جاء محمدٌ وعليٌ لجعل الصدقة بمنزلة الصلاح وهذا لا يكون؛ لأن الصدقة ليست بمنزلة الصلاح ولما كان الصلاح أهم من الصدقة ذكره بأسلوب الشرط فقال: (وأكنْ من الصالحين) فصار عندنا توسّع في المعنى بسبب العطف على المعنى.

لا توجد اي صور متوفرة حاليا.