التّفسير
أعظم الشّاهدين:
يذكر جمع من المفسّرين أنّ عدداً من مشركي مكّة جاؤوا إِلى رسول الله (ص) وقالوا: كيف تكون نبيّاً ولا نرى أحداً يؤيدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التّوراة والإِنجيل، فهات من يشهد لك على رسالتك، والآيتان المذكورتان تشيران إِلى هذه الواقعة.
في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة، ويطلبون مزيداً من الشواهد، يؤمر النّبي (ص) أن: (قل أي شيء أكبر شهادة).
أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين؟ (قل الله شهيد بيني وبينكم) وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن؟: (وأُوحي إِلي هذا القرآن)، هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري، خاصّة في تلك الظروف الزّمانية والمكانية، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إِعجازه، فألفاظه معجزة، ومعانيه معجزة، أليس هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقاً إِلهياً للدعوة!!.
يستفاد من هذه العبارة أيضاً أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول الله (ص).
ثمّ يشير إِلى هدف نزول القرآن ويقول: (لأُنذركم به ومن بلغ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إِليهم - عبر تاريخ البشر، وعلى إمتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة - كلامي، وأحذرهم من عواقب عصيانهم.
يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإِنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالباً بين الإِنذار والبشرى، والسبب في ذلك يعود إِلى أنّ الكلام موجه هنا إِلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إِيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين.
بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول الله (ص)، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم.
وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ مفهوم إِبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إِلى الأقوام الأُخرى فحسب، بل أنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إِلى تلك الأقوام.
جاء عن الإِمام الصّادق (ع) أنّه عند ما سئل عن هذه الآية قال: "بكل لسان" (1).
كما أنّ من أُصول الفقه المسلم بها هو مبدأ "قبح العقاب بلا بيان" وهذا ما تفيده الآية المذكورة.
فقد ثبت في أُصول الفقه أنّه مادام الحكم لم يبلغ شخصاً، فإِنّه لا يتحمل مسؤولية تنفيذه (إلاّ إذا كان مقصراً في استيعاب الحكم)، فهذه الآية تقول بأنّ الذين تصلهم الدعوة يتحملون مسؤوليتها، أمّا الذين لم تصلهم الدعوة، بدون تقصير، فلا مسؤولية عليهم.
في تفسير (المنار) رواية عن أُبيّ بن كعب قال: أُتي رسول الله (ص) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إِلى الإِسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم، ثمّ قرأ (وأُوحي إِليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)، ثمّ قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنّهم لم يدعوا (2).
ومن هذه الآية نفهم - أيضاً أنّ إِطلاق كلمة "شيء" على الله جائز، إِلاّ أنّه شيء لا كالأشياء المخلوقة المحدودة، بل هو خالق ولا تحده حدود.
ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم: (أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أُخرى) ويأمره أن: (قل لا أشهد، قل إنّما هو إِله واحد وإنّني بريء ممّا تشركون).
ذكر العبارات الأخيرة في الآية له هدف نفسي هام، وهو أنّ المشركين قد يتصورون حدوث تزلزل في نفس النّبي (ص) على أثر كلامهم، فيتركون المجلس آملين، ويبشرون أصحابهم بإمكان أن يعيد محمّد (ص) النظر في دعوته.
فهذه الجمل الصريحة الحاسمة تقضي على أمل المشركين وتحيله إِلى يأس، وتبيّن لهم أنّ الأمر أعظم ممّا يظنون، وأنّه لم يداخله أدنى شك في دعوته، ولقد دلت التجارب على أنّ ذكر أمثال هذه العبارات الجازمة والحاسمة في ختام كل بحث له أثر عميق في تحقيق الهدف النهائي.
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً﴾ تمييز نزلت حين قالوا له (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن أهل الكتاب أنكروك فأرنا من يشهد برسالتك ﴿قُلِ اللّهِ﴾ أي الله أكبر شهادة ﴿شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ خبر محذوف أو الله ويلزمه أنه أكبر شهادة ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ عطف على مفعول أنذركم أي ولأنذر سائر من بلغه إلى يوم القيامة ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.