لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التّالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة هذا الطريق بما يشيعونه ويروجونه من مختلف الأكاذيب، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول الله (ص) : (وهم ينهون عنه)، ويبتعدون عنه بأنفسهم: (وينأون عنه) (2)، دون أن يدركوا أنّ من يصارع الحقّ يكن صريعه، وأخيراً، وبحسب قانون الخلق الثابت، يظهر وجه الحقّ من وراء السحب، وينتصر بما له من قوّة، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإِخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم، ولكنّهم لا يدركون الحقيقة: (وإن يُهلكون إِلاّ أنفسهم ومايشعرون). الصاق تهمة عظيمة بأبي طالب مؤمن قريش: يتّضح ممّا قيل في تفسير هذه الآية أنّها تتابع الكلام على المشركين المعاندين وأعداء رسول الله (ص) الألداء، والضمير "هم" يعود - بموجب قواعد الأدب واللغة - إِلى الذين تتناولهم الآية بالبحث، أي الكفار المتعصبين الذين لم يدخروا وسعاً في إِيذاء النّبي (ص) ووضع العثرات في طريق الدعوة إِلى الإِسلام. ولكن - لشديد الأسف - نرى بعض المفسّرين من أهل السنة يخالفون جميع قواعد اللغة العربية، فيقطعون الآية الثّانية من الآية الاُولى ويقولون: إِنّها نزلت في أبي طالب والد أمير المؤمنين علي (ع). أنّهم يفسرون الآية هكذا: هناك فريق يدافعون عن رسول الإِسلام (ص) ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) وهم يستشهدون في توكيد رأيهم ببعض الآيات الأُخرى من القرآن، ممّا سنتناوله في موضعه، مثل الآية (114) من سورة التوبة والآية (56) من سورة القصص. لكن جميع علماء الشيعة وجمع من علماء أهل السنة، ومثل ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة والقسطلاني في "إِرشاد الساري" وزيني دحلان في حاشية السيرة الحلبية، ويعتبرون أبا طالب من مؤمني الإِسلام، وهناك في المصادر الإِسلامية الأصيلة دلائل كثيرة على هذا. ومن يطالع هذه الأدلة يندفع للتساؤل بدهشة: ما السبب الذي حدا ببعضهم إِلى كره أبي طالب وتوجيه مثل هذا الإِتهام الكبير إِليه؟! كيف يكون هدفاً لمثل هذا الإِتهام من كان يدافع بكل كيانه ووجوده عن رسول الله (ص) ولطالما وقف هو وابنه في مواقع الخطر يدرآن عن حياة رسول الله (ص) كل خطر؟! هنا يرى المحققون المدققون أنّ التيار المناويء لأبي طالب تيار سياسي ينطلق من عداء "شجرة بني أُمية الخبيثة" لمكانة علي (ع). ذلك لأنّ أبا طالب ليس الوحيد الذي تعرض لمثل هذه الهجمات بسبب قرابته من أمير المؤمنين علي (ع)، بل إِنّنا نلاحظ على امتداد تاريخ الإِسلام أنّ كل من كان له بأي شكل من الأشكال نوع من القرابة من أميرالمؤمنين علي (ع) لم ينج من هذه الحملات اللئيمة، وفي الحقيقة كان ذنب أبي طالب الوحيد أنّه والد الشخصية الإِسلامية الكبرى علي (ع). ونذكر هنا بإِيجاز مختلف الأدلة التي تثبت إيمان أبي طالب، تاركين التفاصيل للكتب المختصة في الموضوع. 1 - كان أبو طالب يعلم، قبل بعثة الرّسول الأكرم (ص)، أنّ ابن أخيه سوف يصل إِلى مقام النبوة، فقد كتب المؤرخون أنّه في رحلته مع قافلة قريش إِلى الشام اصطحب معه ابن أخيه محمّداً البالغ يومئذ الثّانية عشرة من العمر، وفي غضون الرحلة رأى منه مختلف الكرامات، ثمّ عندما مرّت القافلة بالراهب (بحيرا) الذي أمضى سنوات طوالا في صومعته على طريق القوافل التجارية، استلف محمّد (ص) نظر الراهب الذي راح يدقق في وجهه وملامحه، ثمّ التفت إِلى الجمع سائلاً: من منكم صاحب هذا الصبي؟ فأشار الجمع إِلى أبي طالب الذي قال له: هذا ابن أخي، فقال بحيرا: إِنّ لهذا الصبي شأناً، إِنّه النّبي الذي أخبرت به وبرسالته الكتب السماوية، وقد قرأت فيها تفاصيل ذلك كله (3). ولقد كان أبو طالب قبل ذلك قد أدرك من الوقائع والقرائن التي رآها من ابن أخيه أنّه سيكون نبي هذه الأُمّة. وبموجب ما يذكره الشهرستاني صاحب "الملل والنحل" وغيره من علماء السنة أنّ سماء مكّة قد جست بركتها عن أهلها سنة من السنين، فواجه الناس سنة جفاف شديد، فأمر أبو طالب أنّ يأتوه بابن أخيه محمّد، فأتوه به وهو رضيع في قماطه، فوقف تجاه الكعبة، وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إِلى أعلى ثمّ يتلقفه وهو يقول: يا ربّ بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا، فلم يمض إِلاّ بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الاُفق وغطت سماء مكّة كلّها وهطل مطر غزير كادت معه مكّة أن تغرق. ثمّ يقول الشهرستاني: هذه الواقعة، التي تدل على علم أبي طالب بنبوة ابن أخيه ورسالته منذ طفولته تؤكّد إِيمانه به، وهذا أبيات أنشدها أبو طالب بعد ذلك بتلك المناسبة: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم***فهم عنده في نعمة وفواضل وميزان عدل لا يخيس شعيرة***ووزان صدق وزنه غير عائل إِنّ حكاية إِقبال قريش على أبي طالب (رحمه الله) عند الجفاف، واستشفاع أبي طالب إِلى الله بالطفل قد ذكرها غير الشهرستاني عدد آخر من كبار المؤرخين، وقد أورد العلاّمة الاميني (قدس سره) صاحب كتاب "الغدير" هذه الحكاية وذكر أنّه نقلها من "شرح البخاري" و"المواهب اللدنية" و"الخصائص الكبرى" و"شرح بهجة المحافل" و "السيرة الحلبية" و"السيرة النبوية" و"طلبة الطالب" (4). 2 - إِضافة إِلى كتب التّأريخ المعروفة، فانّ بين أيدينا شعراً لأبي طالب جمع في "ديوان أبي طالب"، ومنه الأبيات التّالية: والله لن يصلوا إِليك بجمعهم***حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة***وابشر بذاك وقر منك عيونا ودعوتني وعلمت أنك ناصحي***ولقد دعوت وكنت ثمّ أميناً ولقد علمت بأنّ دين محمّد***من خير أديان البرية دينا كما قال أيضاً: ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً***رسولا كموسى خط في أوّل الكتب وإنّ عليه في العباد محبّة***ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ (5) يذكر ابن أبي الحديد طائفة كبيرة من أشعار أبي طالب (التي يقول عنها ابن شهر آشوب في "متشابهات القرآن" أنّها تبلغ ثلاثة آلاف بيت) ثمّ يقول: إِن هذه الأشعار لا تدع مجالا للشك أنّ أبا طالب كان يؤمن برسالة ابن أخيه. 3 - ثمّة أحاديث منقولة عن رسول الله (ص) تؤكّد شهادته بإِيمان عمه الوفي أبي طالب، من ذلك ما ينقله لنا صاحب كتاب "أبو طالب مؤمن قريش" فيقول: عندما توفي أبو طالب رثاه رسول الله (ص) وهو على قبره، قائلا: "وا أبتاه! وا أبا طالباه واحزناه عليك! كيف أسلو عليك يا من ربيتني صغيراً، واجبتني كبيراً، وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد" (6). وكثيراً ما كان رسول الله (ص) يقول: "ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب" (7). 4 - من المتفق عليه أنّ رسول الله (ص) قد أمر بقطع كل رابطة صحبة له بالمشركين، وكان ذلك قبل وفاة أبي طالب بسنوات، وعليه فانّ ما أظهره رسول الله (ص) من الحبّ والتعلق بأبي طالب يدل على أنّه كان يرى في أبي طالب تابعاً لمدرسة التوحيد، وإِلاّ فكيف ينهى الآخرين عن مصاحبة المشركين، ويبقى هو على حبّه العميق لأبي طالب؟ 5 - في الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) أدلة وافرة على إِيمان أبي طالب وإِخلاصه، ولا يسع المجال هنا لذكرها، وهي أحاديث تستند إِلى الاستدلال المنطقي والعقلي، كالحديث المنقول عن الإِمام زين العابدين (ع) الذي قال - بعد أن سئل عن إِيمان أبي طالب وأجاب الإِيجاب ـ: "إنّ هنا قوماً يزعمون أنّه كافر... واعجبا كل العجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله (ص) وقد نهاه الله أن تقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن (أي في أكثر من آية) ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فأنّها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه" (8). 6 - وإِذا تركنا كل هذا جانباً، فاننا قد نشك في كل شيء إِلاّ في حقيقة كون أبي طالب كان على رأس حماة الإِسلام ورسول الإِسلام، وكانت حمايته تتعدى الحدود المألوفة بين أبناء العشيرة والعصبيات القبلية ولا يمكن تفسيرها بها. ومن الأمثلة الحيّة على ذلك حكاية (شعب أبي طالب) يجمع المؤرخون على أنّه عندما حاصرت قريش النّبي (ص) والمسلمين محاصرة إِقتصادية وإِجتماعية وسياسية شديدة وقطعت علائقها بهم، ظل أبو طالب الحامي والمدافع الوحيد عنهم مدّة ثلاث سنوات ترك فيها كل أعماله، وسار ببني هاشم إِلى واد بين جبال مكّة يعرف بشعب أبي طالب فعاشوا فيه، وقد بلغت تضحياته حداً أنّه، فضلا عن بنائه الأبراج الخاصّة للوقوف بوجه أي هجوم قد تشنه قريش عليهم، كان في كل ليلة يوقظ رسول الله (ص) من نومه ويأخذه إِلى مضجع آخر يعده له ويجعل ابنه الحبيب إِليه علياً (ع) في مكانه، فإِذا ما قال له ابنه علي (ع) : يا أبة، إِنّ هذا سيوردني موارد الهلكة، أجابه أبو طالب (ع) : ولدي عليك بالصبر، كل حي إِلى ممات، لقد جعلت فداء ابن عبدالله الحبيب، فيرد علي (ع) : يا أبه، ما قلت لك ذلك خوفاً من الموت في سبيل محمّد (ص)، بل كنت أريدك أن تعلم مدى طاعتي لك واستعدادي للوقوف إِلى جانب محمّد (ص) (9). إِنّنا نرى أن من يترك التعصب، ويقرأ - بغير تحيز - ما كتبه التّأريخ بحروف من ذهب عن أبي طالب، سيرفع صوته مع صوت ابن أبي الحديد منشداً: ولولا أبو طالب وابنه***لما مثل الدين شخصاً وقاماً فذاك بمكّة آوى وحامى***وهذا بيثرب جس الحماما (10) ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ عن القرآن أو الرسول وإثباته ﴿وَيَنْأَوْنَ﴾ يتباعدون ﴿عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ﴾ بذلك ﴿إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أن ضرر ذلك وبال عليهم.