لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير معرفة الغيب: هذه الآية استمرار للردّ على إِعتراضات الكفار والمشركين المختلفة، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الإِعتراضات في جمل قصيرة: الأوّل: هو أنّهم كانوا يريدون من رسول الله (ص) القيام بمعجزات عجيبة وغريبة، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته، بل إِنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون، فمرّة كانوا يطلبون بيوتاً من ذهب، ومرّة يريدون هبوط الملائكة، ومرّة يريدون أن تتحول أرض مكّة القاحلة المحرقة إِلى بستان مليء بالمياه والفواكه وغير ذلك ممّا كانوا يطلبونه من النّبي (ص)، ممّا سيأتي شرحه في تفسير الآية (90) من سورة الإِسراء. ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية وإِمتلاك الأرض والسماء، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من الله: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله). "الخزائن" جمع الخزينة، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد حفظها وإِخفاؤها عن الآخرين، وإستناداً إِلى الآية: (وان من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم) (1) يتّضح أنّ "خزائن الله" تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات. ثمّ تردّ الآية على الّذين كانوا يريدون من رسول الله (ص) أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع، فتقول: (ولا أعلم الغيب). سبق أن قلنا إِنّه لا يكون أحد مطلعاً على كل شيء إِلاّ إِذا كان حاضراً وشاهداً في كل مكان وزمان، وهو الله وحده، أمّا الذي يكون وجوده محدداً بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شيء، ولكن ما من شيء يحول دون أن يمنح الله جزءاً من عمله هذا إِلى الأنبياء والقادة الإِلهيين لإِكمال مسيرة القيادة، حسبما يراه من مصلحة، وهذا بالطبع لا يكون علماً بالغيب بالذات، بل هو "علم بالغيب بالعرض" أي أنّه تعلم من عالم الغيب. هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أنّ الله لا يظهر علمه هذا للانبياء والقادة الإِلهيين وحدهم، بل قد يظهره لغيرهم أيضاً، ففي الآيتين (26 و27) من سورة الجن نقرأ: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إِلاّ من ارتضى من رسول). لا شك أنّ مقام القيادة، وخاصة القيادة العالمية العامة، يتطلب الإِطلاع على كثير من المسائل الخافية على عامّة الناس، فإِذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه على علمه، فإِنّ مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقّة). وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّنا نلاحظ أنّ بعض الكائنات الحيّة لابدّ لها أن تعلم الغيب للمحافظة على حياتها، فيهبها الله ما تحتاجه من علم، فنحن - مثلا - قد سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في الشتاء، أي أنّ الله قد وهبها هذا العلم بالغيب، لأنّ حياتها ستتعرض لخطر الفناء دون هذه المعرفة، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إِن شاء الله عند تفسير الآية (188) من سورة الأعراف. في الجملة الثّالثة ردّ على الذين كانوا يتصورون النّبي (ص) ملكاً، أو أن يصاحبه ملك، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات، وغير ذلك، فقال: (ولا أقول لكم إِنّي ملك إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ). يتّضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول الله (ص) من علم، وكل ما فعله كان بوحي من السماء، وإنّه لم يكن يفعل شيئاً باجتهاده ولا بالعمل بالقياس ولا بأي شيء آخر كما يرى بعض - وإِنّما كان يتبع الوحي في كل أمر من أُمور الدين. وفي الختام يؤمر رسول الله (ص) أنّ يقول لهم: هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إِليهم على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيداً ويتفهمونها؟ (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون). إِنّ ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأنّ رسول الله (ص) سبق أن قال: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) و (ولا أعلم الغيب) و (لا أقول لكم إِنّي ملك) بل (إن اتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ)، ولكن هذا كلّه لا يعني إنّني مثلكم، أيّها المشركون، بل أنا إِنسان بصير بالواقع بينما المشرك أشبه بالأعمى، فهل يستويان؟ ثمّة إِحتمال آخر لربط هذه الجمل، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد وعلى صدق رسول الله (ص) واضحة جلية، ولكنّها تتطلب عيناً بصيرة لكي تراها، فإِذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة، بل لكونكم تفتقرون إِلى العين البصيرة، فهل يستوي الأعمى والبصير؟ ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ مقدوراته أو مرزوقاته ﴿وَلا﴾ إني ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ السموات ما لم يوح إلي ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ من الملائكة أقدر على مقدورهم ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ أي لم أدع ما يسبقه من إلهية وملكية بل أدعي النبوة وهي من كمالات البشر ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ الجاهل والعالم أو الكافر والمؤمن ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ فتعلموا الحق أو فتؤمنوا.