لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الخيانة ممنوعة مطلقاً: بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة "أُحد" وبالنظر إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول، تعتبر هذه الآية رداً على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين، وتوضيح ذلك هو: إن بعض الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا إعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا: نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأُمور وجلائل المصائب. فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: (وما كان لنبي أن يغل(1)) أي أنكم تصورتم وظننتم أن النبي يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحداً. إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول إن هذا الأمر لا يصلح- أساساً- للأنبياء، ولا يتناسب أساساً مع مقامهم العظيم. يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائناً لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية. وغير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد. ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه وأدائه، ثمّ يحتمل- والعياذ بالله- أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب. إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كلّ أحد، نبياً كان أو غير نبي، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول إعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم (ص) لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولاً، ثمّ تقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) أي أن كلّ من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته. قال بعض المفسّرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما غلّ يوم القيامة ليس هو أنه يحمل كلّ ذلك حملاً أو يستصحبه استصحاباً حقيقياً معه يوم القيامة، بل المراد هو أنه يتحمل مسؤولية ذلك، ولكن بالنظر إلى مسألة "تجسم الأعمال" في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير، بل ـوكما يدلّ عليه ظاهر الآية ويشهد به- يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله، أو يستصحبها معه. (ثمّ توفى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) يعني أن الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كلّ أحد نفس ما كسبه خيراً كان أو شراً. ولقد أثّرت الآية السابقة، والأحاديث التي صدرت عن النبي (ص) وهي تذم الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيراً عجيباً حتّى أنهم- نتيجة لهذه التربية- لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال العامة، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان من السهل إخفاؤها إلى النبي، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب. فقد كان هؤلاء نفس أُولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن- في ظل التربية الإسلامية- في قمة الصلاح والأمانة، وفي ذروة الإستقامة والطهر، والتُقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه. أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة، بل يصرفهم حتّى عن التفكير فيها. كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض (الغنائم) أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: "أما والله لولا الله ما آتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا من أنت؟ فقال: و الله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه"(2). ﴿وَمَا كَانَ﴾ ما صح ﴿لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ﴾ يخون في الغنيمة، فقدت يوم بدر قطيفة حمراء من الغنيمة فقال رجل ما أظن إلا رسول الله أخذها فنزلت ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يأتي بالذي غل يحمله على ظهره كما في الخبر أو بما حمل من وباله ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ تعطى جزاؤه وافيا ولم يقل يوفى ما كسبت للمبالغة فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله شمل الحكم الغال وغيره ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.