ثمّ يقول تعالى: (هم درجات عند الله) أي أن لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند الله، وهو إشارة إلى أنه لا يختلف المنافقون عن المجاهدين فقط، بل إن لكلّ فرد من أفراد هذين الطائفتين درجة خاصة تناسب مدى تضحيته وتفانيه في سبيل الله أو مدى نفاقه وعدائه لله تعالى، وتبدأ هذه الدرجات من الصفر وتستمر إلى خارج حدود التصوّر.
هذا وقد نقل في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: "الدرجة ما بين السماء والأرض"(1).
وجاء في حديث آخر "إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أُفق السماء"(2) بيد أننا يجب أن نعلم أن "الدرجة" تطلق عادة على تلك الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان ويصعد إلى مكان مرتفع، في حين أن الدرجات التي يستخدمها الإنسان للنزول من مكان مرتفع إلى مكان منخفض تسمى "دركاً" ولهذا جاء في شأن الأنبياء (عليهم السلام) في سورة البقرة الآية 253 (ورفع بعضهم درجات) وجاء في حقّ المنافقين في سورة النساء الآية 145 (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ولكن حيث كان البحث في الآية الحاضرة حول كلا الفريقين غلب جانب المؤمنين، فكان التعبير بالدرجة دون غيرها إذ قيل (هم درجات عند الله).
ثمّ يقول سبحانه في ختام هذه الآية (والله بصير بما يعملون) أي أنه سبحانه عالم بأعمالهم جميعاً فهم يعلم جيداً من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيته وإيمانه وعلمه.
مع أُسلوب تربوي قرآني مؤثر
هناك الكثير من الحقائق المتعلقة والمرتبطة بالقضايا الدينية أو الخلقية أو الإجتماعية، يطرحها القرآن الكريم في قالب التساؤل والإستفهام تاركاً للسامع ـوبعد أن يضعه أمام كلا جانبي القضية- أن يختار هو بمعونة من فكره، وإنطلاقا من تحليله وتقويمه.
إن لهذا الأُسلوب- الذي لابدّ أن نسميه بالأُسلوب التربوي غير المباشر- أثراً بالغاً في تحقيق الأهداف المرجوة من البرامج التربوية وتأثيرها فيمن يراد توجيههم وتربيتهم، وذلك لأن الإنسان- في الأغلب- يهتم أكثر بما توصل إليه بنفسه من النتائج والأفكار والآراء وما إنتهى إليه بفكره من التفاسير والتحاليل في القضايا المختلفة، فإذا طرحت عليه قضية بصورة قطعية وصبغة جازمة، قاومها أحياناً، ولعله ينظر إليها كما ينظر إلى أية فكرة غريبة.
ولكن عندما يطرح عليه الأمر في صورة التساؤل الذين يطلب منه الجواب عليه حسب قناعته الشخصية ثمّ يسمع ذلك الجواب من أعماق ضميره وفؤاده، فإنه لا يسعه حينئذ أن يقاوم هذا الجواب ويعاديه، بل ينظر إليه نظر العارف به، ولن تعود لديه- حينئذ- تلك الفكرة الغريبة البعيدة، بل تكون الفكرة القريبة إلى قلبه، المأنوسة إلى فؤاده.
إن هذا الأُسلوب من التوجيه والإرشاد مؤثر غاية لتأثير خاصة مع المعاندين، وكذا الأطفال والناشئين.
ولقد استفاد القرآن الكريم من هذا الأُسلوب التربوي الرائع المؤثر في مواضع عديدة نذكر منها بعض النماذج:
1- (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(3).
2- (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)(4).
3- (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور)(5).
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ﴾ أي متفاوتون في الثواب والعقاب تفاوت الدرجات أو ذوو درجات ﴿واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ عليم بأعمالهم ودرجاتها يجازيهم بحسبها.