لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير المثقلون بأوازرهم: بعد تسلية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات السّابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى، توجه سبحانه إِلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، (وهذه الآية ترتبط - في الحقيقة - بأحداث معركة "أُحد" فهي مكملة للأبحاث التي مرّت حول هذه الواقعة، لأن الحديث والخطاب تارةً كان موجهاً إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُخرى موجهاً إِلى المؤمنين، وها هو هنا موجه إِلى الكفار والمشركين). إِنّ الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا إنّما نملي(1) لهم خير لأنفسهم إِنّما نملى لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين) تحذّر المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إِمكانات في العدّة والعدد، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرّية التصرف، يدلي على صلاحهم، أو علامة على رضا الله عنهم. وتوضيح ذلك: إِنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ الله سبحانه ينبّه العصاة الذين لم يتوغّلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقاً، فهو سبحانه ينبّههم بالنذر تارةً، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أُخرى، فيعيدهم بذلك إلى جادة الحق والصواب. وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرّة قابلية الهداية، فيشملهم اللطف الإِلهي، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إِليهم، لأنها تكون بمثابة جرس إِنذار لهم تنبّههم من غفلتهم، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله سبحانه: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون)(2). ولكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها، وبلغ طغيانهم نهايته فإِنّ الله يخذلهم، ويكلهم إِلى نفوسهم، أيّ أنّه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العقوبة والعذاب المهين. هؤلاء هم الذين نسفوا كلّ الجسور، وقطعوا كلّ علاقاتهم مع الله، ولم يتركوا لأنفسهم طريق لا العودة إِلى ربّهم، وهتكوا كل الحجب، وفقدوا كل قابلية للهداية الإِلهية، وكل أهلية للّطف الرّباني. إِن الآية الحاضرة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إِذ تقول: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين). ولقد استدلت بطلة الإِسلام زينب الكبرى بنت الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)بهذه الآية في خطابها المدوي والساخن أمام طاغية الشام "يزيد بن معاوية" الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين الذين قطعوا جميع جسور العودة على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال، وما اقترفوه من شنيع الأعمال إِذ قالت: "أظننت يا يزيد... أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة والأُمور متّسقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا، فمه مه أنسيت قول الله عزّوجلّ: (ولا يحسبن الذين كفروا أنّما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين)". جواب على سؤال: إِنّ الآية الحاضرة تجيب ضمناً على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس وهو: لماذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم، ولا يلقون جزاءهم العادل على إِجرامهم؟ يفإِنّ القرآن الكريم يردّ على هذا التساؤل الشّائع قائ: إِنّ هؤلاء فقدوا كل قابلية للتغيير والإِصلاح، وهم بالتالي من الّذين تقتضي سُنّة الخلق ومبدأ حرّية الإِنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم، ويوكّلوا إِلى أنفسهم ليصلوا إِلى مرحلة السقوط الكامل، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العذاب والعقوبة. هذا مضافاً إِلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنّه سبحانه قد يمدّ البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم، أي أنّه يأخذهم فجأة وهم في ذروة التنعم، ويسلبهم كلّ شيء وهم في أوج اللّذة والتمتع، ليكونوا بذلك أشقى من كلّ شقي، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب، لأن فقدان هذا النعيم أشدّ وقعاً على النفس، وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أحذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون)(3). ومثل هؤلاء - في الحقيقة - مثل الذي يتسلق شجرة، فإِنّه كلّما إزداد رقياً ازداد فرحاً في نفسه، حتى إِذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة، فهوى على أثرها من ذلك المترفع الشاهق إِلى الأرض فتحطمت عظامه، فتبدل فرحه البالغ إِلى حزن شديد. لفتة أدبية: يتبيّن ممّا قلناه في تفسير هذه الآية أن "اللام" في قوله سبحانه: (ليزدادوا إِثماً) "لام العاقبة" وليست "لام الغاية". وتوضيح ذلك: إِنّ العرب قد تستعمل اللام لبيان أن ما بعد اللام مراد للإِنسان ومطلوب له كقوله: (لتخرج الناس من الظّلمات إِلى النّور)(4). ومن البديهي أن هداية الناس وخروجهم من الظّلمات إِلى النّور مراد له سبحانه. وقد تستعمل العرب "اللام" لا لبيان أن هذا هو مراد ومطلوب للشخص، بل لبيان أن هذا نتيجة عمل المرء ومآل موقفه كقوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً)(5) ولا شك أنّهم إِنما أخذوه ليكون لهم سروراً وقرّة عين. ولا يختص هذا الأمر باللغة العربية وآدابها، بل هو مشهور في غيره من اللغات والآداب. ومن هنا يتضح الجواب على تساؤل آخر يطرح نفسه هنا وهو: لماذا قال سبحانه: (ليزدادوا إِثماً) الذي معناه - بحسب الظاهر - أي نريد أن يزدادوا إِثماً. لأن هذا الإِشكال والتساؤل إنّما يكون وارداً إِذا كانت اللام هنا لام الإِرادة والغاية المبينة للعلّة والهدف، لا "لام العاقبة" ليكون معنى قوله "ليزدادوا إِثماً" هو: لتكون عاقبة أمرهم ازديادهم الإِثم. وعلى هذا يكون معنى الآية: نحن نمهلهم لتكون عاقبة أمرهم ازدياد ذنوبهم وأوزارهم من الإِثم، فالآية لا تدلّ على الجبر مطلقاً، بل هي خير دليل على حرية الإِنسان واختياره. ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا﴾ استيناف يعلل ما قبله وما كافة واللام للعاقبة ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.