ا
التّفسير
المسلمون في بوتقة الإِختبار والفرز:
لم تكن قضية "المنافقين" مطروحة بقوّة قبل حادثة معركة "أُحد" ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها "أُحد" وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسّين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو "المنافقون"، وكان هذا إِحدى أهم معطيات حادثة "أُحد" ونتائجها الإِيجابية.
والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث - هنا - عن معركة "أُحد" وأحداثها، تبيّن وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إِذ تقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطّيب) فلابدّ أن تتميز الصفوف، وتتمّ عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس.
وهذا قانون عام وسنة إلهية خالدة وشاملة، فليس كلّ من يدعي الإِيمان، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره، وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الإِختبارات الإِلهية المتتابعة له.
وهنا يمكن أنْ يطرح سؤال (وهو السؤال الذي كان مطروحاً بين المسلمين آنذاك أيضاً حسب بعض الأحاديث والرّوايات) وهو: إِذاكان الله عالماً بسريرة كل إِنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس - عن طريق العلم بالغيب - ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟
إِنّ المقطع الثّاني من الآية وهو قوله: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يجيب على هذا السؤال.
أي أن الله سبحانه لن يوقفكم على الأسرار، لأن الوقوف على الأسرار - على عكس ما يظن كثيرون لا يحلّ مشكلة، ولايفكّ عقدة، بل سيؤدي إِلى الهرج والمرج والفوضى، وإِلى تمزق العلاقات الإِجتماعية وانهيارها، وإِنطفاء شعلة الأمل في النفوس وتبدده، وتوقف الناس عن الحركة والنشاط والفعالية.
والأهم من كلّ ذلك هو أنّه لابدّ أنْ تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، وليس عن أي طريق آخر، ومسألة الإِختبار الإِلهي لاتعني سوى هذا الأمر، ولهذا فإِن الطريق الوحيد لمعرفة الأشخاص وتقويمهم هو أعمالهم فقط(1).
ثمّ إِنّ الله سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إِذ يقول: (ولكنّ الله يجتبي مِن رُسله مَن يشاء) أي أنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شيء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم إحتياج القيادة الرسالية إِلى ذلك، وتبقى الأعمال - مع ذلك كلّه - هي الملاك الوحيد والمعيار الخالد والمسار الأبدي لمعرفة الأشخاص وتمييزهم وتصنيفهم.
ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأنبياء - بحسب ذواتهم - لا يعرفون شيئاً من الغيب، كما ويستفاد منها أنّ ما يعلمونه منه إِنما هو بتعليم الله لهم وإِطلاعهم على شيء من الغيوب، وعلى هذا الأساس يكون الأنبياء ممن يطلعون على الغيب، كما أن مقدار علمهم بالغيب يتوقف على المشيئة الإِلهية.
ومن الواضح والمعلوم أنّ المراد من المشيئة الإِلهية في هذه الآية - كغيرها من الآيات - هو "الإِرادة المقرونة بالحكمة" أي أنّ الله سبحانه يطلع على الغيب كلّ من يراه صالحاً لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.
ثمّ أنهّ تعالى يذكرهم - في ختام الآية - بأن عليهم - وهو الآن في بوتقة الحياة، بوتقة الإِمتحان الكبير، بوتقة التمييز بين الصالح والطالح، والطيب والخبيث، والمؤمن والمنافق - عليهم أنْ يجتهدوا لينجحوا في هذا الإِمتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الإِختبار العظيم، إِذ يقول: (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم).
ثمّ أن الملاحظة الملفتة للنظر والجديرة بالتأمل في هذه الآية التعبير عن المؤمن بالطيب، ومن المعلوم أن الطيب هو الباقي على أصل خلقته الذي لم تشبه الشّوائب، ولم يدخل في حقيقة الغرائب.
ولم تلوثه الكدورات، فالماء الطاهر الطيب، والثوب الطيب الطاهر وما شابه ذلك هو الذي لم تلوثه الكدورات، ويستفاد من هذا أن الإِيمان هو فطرة الإِنسان الأصيلة، وهو جبلته الأُولى.
﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ﴾ ليترك ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ من اختلاط ﴿حَتَّىَ يَمِيزَ﴾ بالتخفيف والتشديد ﴿الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ بإخبار الرسول بأحوالكم أو بالتكاليف الصعبة كبذل النفس والمال لله ليظهر به ما تظهرون ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ فتعرفوا الإخلاص والنفاق ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ﴾ يختار لرسالته ﴿مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ﴾ مخلصين ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ﴾ حق الإيمان ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ النفاق ﴿فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ على ذلك.