إِنّ هذا العذاب الإليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم - أنفسكم - قد ظلمتم أنفسكم (ذلك بما قدمت أيديكم(4) و أن الله ليس بظلام للعبيد).
بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأُمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاماً للناس.
ولقد نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال: "وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إِلاّ بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد".
إِنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد - من جهة - مقولة الجبريين، و - تعمم - من جهة اُخرى - أصل - العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإِلهية، فتكون جميعاً مطابقة للعدالة.
وتوضيح ذلك: إِنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء - من ثواب أو عقاب - ينال الناس من جانب الله سبحانه فإِنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم (ذلك بما قدمت أيديكم).
وتصرّح من جانب آخر بأن (الله ليس بظلام للعبيد) وإِنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإِلهي، وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).
غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة "وهم الذين يسمّون بالأشاعرة" لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون: إِنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفاً، ولو أدخلهم النّار لم يكن جوراً... فلا يتصوّر منه ظلم، ولا ينسب إِليه جور(5).
والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيداً باتاً ومطلقاً وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد).
على أنّ لفظة "ظلام" صيغة مبالغة، وتعني من يظلم كثيراً، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيراً، لأجل أنّه إِذا أجبر الناس على الكفر والمعصية، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإِجباره وإِكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلماً صغيراً فحسب، بل كان "ظلاماً".
﴿ذَلِكَ﴾ العذاب ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ من المعاصي وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال بها ﴿وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ إن عذب فبعدله.