سبب النزول
حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا محمّد إِنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإِن زعمت أنّ الله بعثك إِلينا فجئنا به نصدقك، فأنزل الله هاتين الآيتين.
التّفسير
مغالطات اليهود وتعللاتهم:
كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملص من الإِنضواء تحت راية الإِسلام.
ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول: (الذين قالوا إِنّ الله عهد إِلينا ألاّ نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النّار).
قال المفسرون: إِن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أنْ يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة، وهي أن يقربوا قرباناً فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).
ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب، وكانوا يريدون - حقّاً - مثل هذا الأمر من باب إِظهار الإِعجاز، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إِعذارهم، ولكن تاريخهم الغابر، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت الحقيقة التالية، وهي أنّهم لم يكونوا أبداً طلاب حقّ وبغاة علم، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية، وذلك فراراً من قبول الإِسلام، والإِنضواء تحت رايته، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإِنّهم كانوا يمتنعون عن الإِيمان، بدليل أنهم كانوا قد قرأوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكنهم مع ذلك أبوا إِلاّ رفض الحقّ، وعدم الإِذعان له.
يقول القرآن في مقام الردّ عليهم: (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إِن كنتم صادقين)؟ وفي ذلك إشارة إِلى زكريا ويحيى وطائفة من الانبياء الذين قتلوا على أيدي بني اسرائيل.
هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إِلى إِحتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته: إِن مقصودهم لم يكن إِن على النّبي أن يذبح قرباناً وتنزل من السماء نار بطريقة إِعجازية وتحرق ذلك القربان، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر "اللاويين" من التوراة (العهد القديم).
إِنّهم كانوا يقولون: إِنّ الله عهد إِلينا أن يبقي مثل هذا التعليم، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإِسلامية لذلك فإِننا لا نؤمن لك.
ولكن هذا الإِحتمال بعيد عن تفسير الآية جداً لأنّه:
أوّلا: إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على "البيّنات" ويظهر من يذلك أن مرادهم كان عم إِعجازياً، وهو لا ينطبق مع هذا الإِحتمال.
وثانياً: إِنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.
﴿الَّذِينَ قَالُواْ﴾ هم جماعة من اليهود ﴿إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ في التوراة ﴿أن﴾ بأن ﴿أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ كانت هذه معجزة لأنبياء بني إسرائيل أن يقرب بقربان فيدعوا النبي فتنزل نار من السماء فيحترق قربان من قبل منه ﴿قُلْ﴾ في إلزامهم ﴿قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي﴾ كزكريا ويحيى ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الموجبة للتصديق ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ واقترحتم ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنكم تؤمنون بذلك.