ثمّ إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إِلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإِلهيين، ولهذا فهم يترصّدون نداء من يدعوهم إِلى الإِيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ويعتنقونها بعد أن يحققوا فيها، ويتأكدوا من صدقها وصحّتها ويؤمنون بها بكلّ وجودهم، ولهذا يقولون في محضر ربّهم: (ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإِيمان أن أمنوا بربكم فأمنا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار).
أي ربّنا الآن وقد أمنا بكل وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كلّ جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربّنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.
يلقد اتصل هؤلاء بالمجتمع الإِنساني إِتصا عجيباً، وتركوا التفرد والأنانية إِلى درجة أنّهم يطلبون من الله في دعواتهم أن لا يجعلهم مع الأبرار والصالحين في حياتهم فحسب، بل يجعل مماتهم - سواء أكان مماتاً طبيعياً أو بالشهادة في سبيل الله - كممات الأبرار الصالحين أيضاً، أو يحشرهم معهم، لأن الموت مع الأشرار موتة مضاعفة، وعناء مضاعف.
وهنا يطرح سؤال وهو: ماذا يعني الستر على السيئات بعد طلب غفرانها؟
والجواب هو: مع ملاحظة بقية الآيات القرآنية تتضح حقيقة الإِجابة على هذا السؤال، فإِن الآية 31 من سورة النساء تقول: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم) فيستفاد من ذلك أنّ السيئات تطلق على المعاصي الصغيرة، ولهذا فإنّ العقلاء ذوي الألباب يطلبون من اللّه في أدعيتهم وضراعاتهم أنْ يغفر لهم ذنوبهم الكبيرة، ويستر - عقب ذلك - على ذنوبهم الصغيرة، ويمحو آثارها من الوجود.
﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ﴾ هو الرسول والقرآن ﴿أَنْ﴾ بأن ﴿آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ فأجبنا ﴿رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ كبائرنا ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا﴾ صغائرنا بتوفيقنا لاجتناب الكبائر ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ مصاحبين لهم معدودين من جملتهم.