سبب النزول
هذه الآية - حسب ما يذهب إِليه أكثر المفسّرين - نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء، والتحقوا بصفوف المسلمين، وكانوا يشكلون عدداً معتدّاً به من النصارى واليهود.
ولكنّها حسب اعتقاد بعض المفسّرين أنّها نزلت في النّجاشي ملك الحبشة العادل، وإِن كان مفهومها أوسع من ذلك المورد.
ففي السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب بالذات توفي النجاشي، فبلغ خبر وفاته إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإِلهام إِلهي في اليوم الذي مات فيه وقال: (صلى الله عليه وآله وسلم) "اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم" ، قالوا: ومن؟ قال: النجاشي، فخرج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع وكشف له من المدينة إِلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلى عليه، فقال بعض المنافقين: انظروا إِلى هذا يصلّي على علج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية ردّاً على مقالتهم(1).
هذا ويستفاد من هذه الرواية أن النجاشي إعتنق الاسلام بالكامل وإِن لم يظهر ذلك.
التّفسير
أهل الكتاب ليسوا سواء:
قلنا - في ما سبق - ان القرآن الكريم إِذا تطرق إِلى أُمور حول إِتباع الشرائع الاُخرى لم ينظر إِلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حساباً واحداً، ولم تتسم أبحاثه حولهم بصفة قومية أو حزبية علائية، بل ينطلق في أحكامه من أسس إِعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلّة المؤمنة الصالحة منهم والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.
والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخضعت للحق.
فالآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلّة المؤمنة، وبينت خمساً من صفاتها الممتازة هي:
1 - (يؤمن بالله) (أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق).
2 - (وما أُنزل إِليكم) (أي يؤمنون بالقرآن).
3 - (وما أُنزل إِليهم) أي إِيمانهم بنبيّ الإِسلام نابع في الحقيقة من إِيمانهم بكتبهم السّماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النّبي ودعت إِلى الإِيمان به إِذا ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم.
4 - (خاشعين لله) أي أنّهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإِرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإِيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والإِستكبار تجاه منطق الحقّ.
5 - (يشترون بآيات الله ثمناً قليلا) أي أنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظاً على مراكزهم وإِبقاءاً على حاكميتهم على يأقوامهم وجماعاتهم، وصو إِلى بعض المكاسب المادية.
والإِشارة إِلى "الثّمن القليل" في الآية للتلويح بما كان عليه أُولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمّة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس.
هذا مضافاً إِلى أن كل أجر دون الأجر الإِلهي حقير، وكل مكسب يحصل عليه الإِنسان عوضاً عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.
وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإِنسانية العالية هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم (أُولئك لهم أجرهم عند ربّهم).
والتعبير هنا بلفظة "ربّهم" إِشارة إِلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم، كما أنه إشارة أيضاً إِلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق.
(إِنّ الله سريع الحساب) فلا يتأخر عن إِعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطىء عن مجازاة المنحرفين والظالمين.
وهذه العبارة بشارة إِلى الصالحين المؤمنين، كما هي أيضاً تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين(2).
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ﴾ نزلت في ابن سلام وأصحابه أو غيرهم ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من الكتابين ﴿خَاشِعِينَ لِلّهِ﴾ حال من فاعل يؤمن وجمع نظرا إلى المعنى ﴿لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ كما يفعل المحرفون ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ الأجر المختص بهم الموعود في أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴿إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.