لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
في الآية اللاحقة - ولكي لا يتصور أحدٌ بأنّ سؤال الله للانبياء يعني أن الأمر قد خفي على الله وغاب عن علمه قال تعالى بصراحة مزيجة بالقَسَم، بأننا سوف نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا، لأنّه ما غاب عنّا شيء من أفعالهم، وما غابوا هم عنّا، فقد كنا معهم في كل حين ومكان: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنّا غائبين). "لنقصنّ" مأخوذة من "القصة" وهي في الأصل تعني ما يتلو بعضه بعضاً، وحيث أن القضايا عند شرحها يتلو بعضها بعضاً أُطلق عليها لفظ القصة، وهكذا أُطلق على العقوبة التي تتلو الجناية لفظ "القصاص"، ومنه "المقصّ" لأنّه يقطع الشعر بالتوالي، ويقال عمن يبحث عن شيء أنّه "قصّ" لأنّه يبحث الحوادث واحداً بعد واحد. وحيث إِنّ في هذه الجملة أربعة أنواع من التأكيد (لام القسم، ونون التأكيد، وكلمة علم، التي جاءت بصورة النكرة، والمراد من ذلك بيان عظمته، وجملة ما كان غائبين) لذلك يستفاد منها أنّ المقصود هو: أنّنا نشرح لهم تفاصيل أعمالهم جميعها القذة بالقذة وتباعاً، ليعلموا أنّه لا يخفى عنّا شيء من نيّة أو عمل قط (3). المساءلة لماذا؟ إِنّ أوّل ما يطرح نفسه هنا هو: نحن نعلم أنّ الله سبحانه يعلم بكل شيء، فهو الحاضر في كل زمان ومكان، الناظر لكل شيء من نيّة أو عمل، فما الحاجة إِلى مساءلة الرسل والأُمم عامّة وبدون إِستثناء؟! الجواب على هذا السؤال واضح، لأنّ السؤال لو كان للاستعلام والإِستفهام، وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالِم العارِف. وأمّا إِذا كان المقصود منه هو إِلفات الشخص إِلى ما عمله، أو إِتمام الحجّة عليه، أو ما أشبه ذلك، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير، إِذ يشبه ذلك تماماً ما لو أسدَينا إِلى أحد خدمات كثيرة وقابَلَنا بالإِساءة والخيانة، وكان كل ذلك معلوماً معروفاً عندنا، ومع ذلك فإِننا نسائله ونقول: ألسنا قد أسدينا إِليك كذا وكذا من الخدمة؟ فهل كان هذا جزاء الإِحسان إِليك؟؟ إِنّ مثل هذه المساءلة ليست لاكتساب العلم، واكتشاف الحقيقة المجهولة، بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإِيقافه على الحقيقة، أو أنّه لتثمين خدمة قام بها أحد المسؤولين وتشجيعه، فنسأله: ماذا فعلت في هذه السفرة التي كلّفت فيها بمهمّة؟ مع أنّنا نعرف من قبل بتفاصيل عمله. التّوفيق بين آيات المساءلة في القرآن: قد يُظنَّ أن الآيات المطروحة هنا على بساط البحث، والتي تصرح بكل تأكيد بأن الله يسأل الجميع عمّا فعلوه وارتكبوه، تنافي بعض الآيات القرآنية الأخرى في هذا الصعيد مثلما ما جاء في سورة الرحمان: (فيومئذ لا يُسأَل عن ذنبه إِنس ولا جان... يعرف المجرمون بسيماهم...) (4). وكذا الآيات الأُخرى التي تنفي السؤال؟ فكيف يمكن التوفيق والجمع بين تلك الآيات والآيات الحاضرة التي تثبت قضية المساءلة يوم القيامة؟! إِن الإِمعان في هذه الآيات كفيل بأن يكشف كل إِبهام عنها، فإِنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في مجال المساءلة في يوم القيامة أن الناس يمرون في ذلك اليوم بمراحل مختلفة متنوعة، ففي بعض المراحل لا يُسألون عن أي شيء مطلقاً، بل يُختم على أفواههم، وتتكلم أعضاؤهم وجوارحهم التي تحتفظ بآثار أعمالهم في نفسها، كشاهد حيّ لا يردّ يروي أعمالهم بدقة متناهية. وفي المرحلة الأخرى يُرفع الختم عن أفواههم فيتحدثون ويُسألون فيعترفون عند ذلك - بعد مشاهدة الحقائق التي انكشفت في ضوء شهادة الجوارح - بأعمالهم، تماماً كالمجرم الذي لا يرى بُدّاً من الاعتراف بجرمه عند مشاهدة الأدلة العينية. وقد احتمل بعض المفسّرين أيضاً في تفسير هذه الآيات، أنّ الآيات النافية للسؤال إِشارة إِلى نفي المساءلة الشفاهية، والآيات المثبتة إِشارة إِلى السؤال من الجوارح وهي تجيب بلسان الحال - مثل حمرة وجه الإِنسان خجلا من انكشاف جرمه - بالحقائق. وفي هذه الصورة يرتفع التنافي بين هاتين الطائفتين من الآيات. في الآية اللاحقة - تكميلا لمبحث المعاد - يشير تعالى إِلى قضية "وزن الأعمال" الذي جاء ذكره في السور القرآنية الأُخرى مثل ما جاء في سورة "المؤمنون" في الآية (102 و103) وسورة القارعة الآية (6 و8). ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم﴾ على الرسل والمرسل إليهم أحوالهم ﴿بِعِلْمٍ﴾ عالمين بها أو بمعلومنا منها ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ عنها فتخفى علينا.