غير أنّ الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإِمهال الطويل) الحصول على فرصة لجبران مافات منه أو ليعمّر طويلا، إِنّما كان هدَفه من ذلك هو إِغواء بني البشر (وقال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم) أي لأغوينهم كما غويتُ، ولأُضِلنّهم كما ضللتُ.
إِبليس أوّل القائلين بالجبر:
يستفاد من الآية الحاضرة أن الشيطان لتبرئة نفسه نسب إِلى الله الجبر إِذ قال: (فبما أغويتني) لأغوينهم.
بعض المفسّرين أصرّ على تفسير جملة (فبما أغويتني) بنحو لا يُفهَمُ منه الجبر، إِلاّ أن الظاهر هو أنه لا موجب لمثل هذا الإِصرار.
وشاهد هذا القول هو ما روي عن أميرالمؤمنين (ع) : "كان أميرالمؤمنين جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إِذا أقبل شيخ فجثا بين يديه ثمّ قال له: يا أميرالمؤمنين: اخبرنا عن مسيرنا إِلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال له أمير المؤمنين (ع) :"أجل مه يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه وقدر".
فقال له الشّيخ: عند اللّه أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين.
فقال له (ع) : "يا شيخ فواللّه لقد عظم اللّه تعالى لكم الأجر في مسيرتكم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين".
فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا.
(فاستفاد السائل من هذه الإِجابة الجبرية)
فقال له (ع) : "أو تظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً أنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الاُمّة ومجوسها..." (9)ومن هذا يتّضح أنّ أوّل من وقع في ورطة الاعتقاد بالجبر هو الشيطان.
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ دل على أنه أشعري أو جبري حيث إنه نسب الإغواء إليه تعالى ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ﴾ لبني آدم ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ طريق الحق.