لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ - بلهجة أكثر حدّةً - على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد، وسبباً للتقرب إلى الله فيقول: أيّها النّبي (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) ؟ إذا كانت هذه الأُمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق، وبين التعاليم الدينية؟! ثمّ أضاف للتأكيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة، وإن كان الآخرون - أيضاً - يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط، ويحرم منها الآخرون حرماناً كليّاً. وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ إنّ الحرام هو ما يورث مفسدة، لا ما هو نعمة وموهبة. هذا وقد احتمل أيضاً في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا، إلاّ أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب). وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد: (كذلك نفصل الآيات لقوم يَعْلَمون). الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام: لقد اختار الإسلام - كسائر الموارد - حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والإستفادة من أنواع الزينة، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والإستفادة من الزينة والتجمل - مهما كان بصورة معتدلة - أمر مخالف للزّهد، ولا كما يتصور المفرطون في إستعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص. ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماماً مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما، واحتياجاتهما الذاتية. توضيح ذلك: إنّ غريزة حبّ الجمال - باعتراف علماء النفس - هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة، والتي تشكل مضافاً إلى غريزة حب الخير، وغريزة حب الإستطلاع، وغريزة التّدين، الأبعاد الأصيلة في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية، والصناعات الجميلة، والفن بمعناه الواقعي، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس. ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم إشباعه بصورة صحيحة. ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والإستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة، واستعمال كل أنواع العطور، وما شابه ذلك، بل أوصى بذلك وَحُثَّ عليه أيضاً، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة. فإننا نقرأ - مثلا - في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) أنّه عندما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه، ولما سئل: لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال: "إنّ الله جميل يحبّ الجمال، فأتجمل لربّي وهو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد" (3). وفي الحديث أنّ أحد الزهاد، ويدعى عباد بن كثير البصري، رأى الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يلبس ثياباً غالية الثمن فقال معترضاً عليه: يا أبا عبدالله، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : "ويلك - يا عباد - من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟" (4). وأحاديث أُخرى. إنّ هذا التعبير، أي أنّ الله جميل يحب الجمال، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي : أنّ الإستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعاً لما خلق الله تلك الزينة أبداً، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال. ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون - غالباً - في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير. ولهذا يعمد القرآن الكريم فوراً وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي - كما أسلفنا - إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الإستفادة من هذه الأُمور، ففي أكثر من عشرين موضعاً من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة). وعلى كل حال، فإنّ أُسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والإعتدال، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال. بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عندما يُسأل أحد الأئمّة: لماذا يلبس ثياباً فاخرة، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإِمام (عليه السلام) قائلا: "إنّ على بن أبي طالب (عليه السلام) كان في زمان ضيق، فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به" (5). توصية صحية هامّة: إنّ عبارة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) التي جاءت في الآية الحاضرة، وإن كانت تبدو للنظر أمراً بسيطاً جدّاً، إلاّ أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئاً ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم، وهي من جانب آخر منبع مهيَّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض، ولهذا فإنّ الخطوة الأُولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل - في الحقيقة - فضلات الجسم، وتتم عملية تطهير الجسم منها عملياً. إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف، والإفراط في الأكل والبطنة، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلاّ رعاية الإعتدال في الأكل، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري، وتصلب الشرايين، وأنواع السكتة، وما شابه ذلك من الأمراض التي يُعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلاّ الحركة البدنية الكافية، والإعتدال في المأكل والمشرب. وقد نقل المفسّر الكبير العلامة "الطبرسي" في "مجمع البيان" قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه: حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كلَّه في نصف آية من كتابه وهو قوله: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وجمع نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) الطب في قوله: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، واعط كل بدن ما عودته". فقال الطبيب: ماترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً (6). فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية، فما عليه إلاّ أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي. ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ﴾ من الثياب وسائر ما يتجمل به ﴿الَّتِيَ أَخْرَجَ﴾ من الأرض ﴿لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ المستلذات من المآكل والمشارب ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالاستحقاق وإن شاركهم الكفرة فيها ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ مختصة بهم ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ نبين الأحكام كذلك البيان.