التّفسير
مرّة أُخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين، يعني أُولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق، فيقول: (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).
وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): "أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد: اهبطوا به إلى سجّين".(1)
وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الطبري وسائر التفاسير، في ذيل الآية المبحوثة.
من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي، كما نقرأ في الآية (رقم 9) من سورة فاطر: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
ثمّ أضاف قائلا: (ولا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط)، أي حتى يدخل البعير في ثقب الاُبرة.
إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الاُبرة، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقاً.
و "الجمل" في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثاً، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضاً (2).
وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسباً أقوى وأكثر، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل، وهم على حق في هذا الإتجاه لأُمور:
أوّلا: إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.
ثانياً: إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضاً، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا: إنّ عيسى قال: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله.
لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله".
ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب منذ قديم الزمان.
).وقد نستعمل هذا المثل أيضاً، في محاوراتنا اليومية الآن، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّاً أحياناً، والمتساهلين جدّاً أحياناً أُخرى: (إنّ فلاناً تارةً لا يدخل من باب المدينة، وتارةً يدخل من ثقب إبرة).
ثالثاً: بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جداً، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا: (وكذلك نجزي المجرمين
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا﴾ فلم يؤمنوا بها ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ لرفع أعمالهم أو لأرواحهم ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ يدخل البعير في ثقب الإبرة وهو مما لا يكون فكذا دخولهم ﴿وَكَذَلِكَ﴾ الجزاء ﴿نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾.