وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: (إنّكم لتأتون الرّجال شهوة من دون النّساء).
وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى "الجنس الموافق"، ويفعل بالتالي ما يخالف - أساساً - الفطرة، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين، والغريزة السوية الصحيحة، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.
وبعبارة أُخرى: يكون أثره الوحيد، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة الجنسية، والقضاء على الهدف الأصلي، وهو إستمرار النسل البشري.
ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية: (بل أنتم قوم مسرفون) أي تجاوزتم حدود الله، ووقعتم في متاهة الإنحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.
ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب، بل تورطوا في مثل هذا الإنحراف والإسراف في كل شي، وفي كل عمل.
والجذير بالذكر أنّ الآية الأُولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة، فإذا فعل أحد عملا شيئاً قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم، لبيان أهمية الموضوع: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، فإذا قال له الشخص، ماذا فعلت؟
يقول له مرّة أُخرى: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.
إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجاً على شناعة عمله القبيح وخطورته، وهو أبلغ في التأثير.
﴿إِنَّكُمْ﴾ بالاستفهام والإخبار ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ في أدبارهم ﴿شَهْوَةً﴾ مفعول له أو حال ﴿مِّن دُونِ النِّسَاء﴾ المخلوقة لكم ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ أضرب عن الإنكار إلى الإخبار بأنهم مجاوزون الحلال إلى الحرام.