التّفسير
في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن الهدف هو الجميع، يقول القرآن الكريم أوّلا: هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها) (1).
ثمّ يقول: لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات).
ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم، وأصروا ولجّوا في عنادهم، ولم يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل).
من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإِلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مراراً وتكراراً، ولكن المشركين لجوا في عنادهم، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.
وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج: (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين).
يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطيء، ويستمرون في السير في ذلك الطريق، ينتقش الإِنحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء.
ويتجذر الفساد في نفوسهم، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.
وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب، وهو منشأ تأثير كل مؤثر، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره، حيث يجعله "مَلَكة" في نفس الشخص.
ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ بين ﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ أي يخلفونهم في ديارهم بعد هلاكهم ﴿أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي بجزائهم كما أصبنا من قبلهم ﴿وَنَطْبَعُ﴾ ونحن نختم ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وإسناده إليه تعالى كناية من تمكن الكفر في قلوبهم أو إسناد إلى السبب أو مجاز عن ترك قسرهم على الإيمان ﴿فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ الوعظ سماع قبول.