لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون، ولايضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد، واثبات براءتهم من أي ذنب، قالوا: إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا (وما تنقم منّا إلاّ أن آمنا بآيات ربّنا لما جاءتنا). يعني أنّنا لسنا مشاغبين، ولا متآمرين، ولا متواطئين ضدك، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد، بل نحن عندما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير. وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأُولى أنّهم لا يخافون أي تهديد، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة. وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الإتهامات التي وجهها فرعون إليهم. إن جملة "تنقم" مشتقة من مادة "نقمة" على وزن "نعمة" وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة. وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا. ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه، وطلبوا منه الصبر والإستقامة، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: (ربّنا افرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين). والملفت للنظر أنّهم بعبارة (أفرغ علينا صبراً) أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى، فأعطنا يا ربّ أنت - أيضاً - آخر درجات الصبر والإستقامة، لأنّ "أفرغ" من مادة "الإفراغ" بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ. الاستقامة الواعية: يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل إطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسى (عليه السلام) الذين صاروا من المؤمنين الصادقين، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الإنقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف، ويصير في صف الموافق، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعاً، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير، وبوجه مستبشر؟ ولكن هذا الإِستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ هؤلاء - نظراً إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر - وقفوا جيداً على عظمة معجزة النّبي موسى (عليه السلام) وحقانيته، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل... وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سربل كل وجودهم وكيانهم، وهو عشق لا يعرف حدّاً وسدّاً، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية. إنّهم كانوا يعلمون جيداً أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟ أجل، إذا كان الإيمان مقروناً بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب. ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (72) : (قالوا لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنّما أنت تقض هذه الحياة الدنيا). وأخيراً - وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ - استقام أُولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته، ومثّل بأجسامهم تمثيلا مروعاً، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل. وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة، وآخر النهار شهداء وبررة. ولكن مع الإلتفات إلى أنّ مثل هذا الإِنقلاب والتحول والإِستقامة ليس ممكناً إلاّ في ظلّ الإمدادات الإِلهية، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق، شملته هذه العنايات الرّبانية، والإمدادات الإلهية. ﴿وَمَا تَنقِمُ﴾ تنكر ﴿مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ عند فعل ما توعدونا به لئلا نرتد كفارا ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ ثابتين على الإسلام.