التّفسير
في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهداً آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملائه حول وضع موسى (عليه السلام)، ويستفاد من القرائن الموجودة في نفس الآية أنّ محتوى هذه الآيات يرتبط بفترة ما بعد المواجهة بين موسى وبين السحرة.
تقول الآية في البداية: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك).
يستفاد من هذا التعبير - جيداً - أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسى (عليه السلام) ترك موسى وبني إسرائيل أحراراً (طبعاً الحرية النسبية) مدّة من الزمن، ولم يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسى (عليه السلام) إلى درجة أن قوم فرعون قلقوا من انتشاره ونفوذ دعوتهم، فحضروا عند فرعون وحرضوه على اتّخاذ موقف مشدد تجاه موسى و بني اسرائيل.
فهل فترة الحرية النسبية هذه كانت لأجل الخوف والرعب الذي أصاب فرعون بسبب ما رأى من معجزة موسى (عليه السلام) القوية، أو للإختلاف الذي برز في شعب مصر (وحتى القبطيين منهم) حول موسى ودينه، حيث أنّ جماعة رغبوا في دينه، وكان فرعون شاهداً لهذه الحالة فلم يمكنه أن يتخذ في مثل هذه الأجواء والظروف موقفاً متشدداً من موسى ودينه.
كلا الإحتمالين قريبان إلى ذهن فرعون، ويمكن أن يكون كلاهما معاً قد تركا أثراً في نفسه وفكره.
وعلى كل حال فإنّ فرعون - بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته - صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم: سأقتل أبناءهم وأستخدام نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال: (قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).
وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من لفظة "آلهتك" والظاهر من الآية هو أنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام، وإن كان يُفهم من الآية (رقم 4) من سورة النازعات (أنا ربّكم الأعلى) ومن الآية (38) من سورة القصص (ما علمت لكم من إله غيري) إنّ فرعون كان أعظم إله لشعب مصر، أو على الأقل كان فرعون يعتبر نفسه أعظم معبود لشعب مصر ولكن مع ذلك كان قد اختار آلهة لنفسه وكان يعبدها.
والنقطة الأُخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة، وقرر تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيماً كاملا، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.
على أنّه يحتمل - أيضاً - أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل، فتتحطم معنوياتهم من جهتين: أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم، والأُخرى: من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.
وعلى كل حال أراد بعبارة (إنّا فوقهم قاهرون) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.
سؤال:
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى، وإنّما قرر - فقط - القضاء على أبناء بني إسرائيل؟
جواب:
يستفاد من آيات سورة المؤمن - جيداً - أنّ فرعون كان عازماً في البداية على قتل موسى، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعاً، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإِلهية يتحقق بمقتله، أثرت في روح فرعون وفكره.
هذا مضافاً إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان، ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى.
ولعل فرعون خاف إن هو اتّخذ من موسى (عليه السلام) موقفاً حاداً واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسى (عليه السلام).
﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ﴾ له ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾ بدعاء الناس إلى مخالفتك ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ قيل اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها تقربا إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقيل كان يعبد البقر ويأمرهم بعبادتها وعن علي (عليه السلام) ﴿وَآلِهَتَكَ﴾ أي عبادتك ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ﴾ بالتخفيف والتشديد ﴿أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ متسلطون.