لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
آثار التقوى في روح الانسان وبدنه: في بداية هذه السّورة قسم القرآن النّاس حسب ارتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام: 1 - المتقون: وهم الذين تقبّلوا الإسلام في جميع أبعاده. 2 - الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل. 3 - المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفّار أمام أعداء الدين. وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام. المجموعة الثالثة تضر بالإسلام - دون شك - أكثر من المجموعة الثانية، ولذلك فإن القرآن يقابلهم بشدّة أكثر كما سنرى. هذه المسألة لا تختص بالإسلام طبعاً، كل المذاهب في العالم لها مؤمنون معتقدون، أو معارضون صريحون، أو منافقون محافظون. كما أنها لا تختص بزمان معين، بل هي سارية في كل العصور. المجموعة الاولى: المتقون الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاُولى، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي: 1 - الإيمان بالغيب: «الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي. وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمـَنُ الرَّحِيمُ﴾. الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاُولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة. ومن هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين. المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، واجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصوراً في موقعه من العالم المادي. وهذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية والتقدمية والتطورية! لو قارنّا بين فهم الفريقين ورؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر وأوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، وخالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزليّ وأبديّ. وأنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. ويعتقدون أنّ الإنسان - بما يحمله من روح إنسانية - يسمو بكثير على سائر الحيوانات. وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، ونافذة تطل على عالم أوسع وأكبر. بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه. وأن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، وتندمج أجزاؤه مرّة اُخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، وليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه وبين سائر الحيوانات! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة! وما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة إجتماعية وسلوك ونظام! الرؤية الاُولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين. والثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر على ممارسة الأمور اللهم إلاّ ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطّهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الإستعمار والإستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى. يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى، أم أنه يشمل - أيضاً - الوحي والقيامة وعالم الملائكة وكل ما هو وراء الحس؟ ونحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس - كما ذكرنا - أول نقطة افتراق المؤمنين عن الكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص. بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت(عليهم السلام) تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام الله عليه) والذي نعتقد بحياته وخفائه عن الأنظار، وهذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالباً مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، وسنرى في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. والروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر (عليه السلام) ويمكننا القول أنّ الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة. 2 - الإرتباط بالله: الصفة الاُخرى للمتقين هي أنهم ﴿يُقيمُونَ الْصَّلاةَ﴾. «الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلا أمام الله، ولا يستسلمون إلاّ لرب السماوات والأرض، ولذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الاوثان، أو التسليم أمام الجبابرة والطواغيت. مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاُخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري. الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّاً أمام الله، يتضرع إليه ويناجيه، ينطبع فكره وعمله وقوله بطابع إلهي، ومثل هذا الإنسان لا ينهج طريقاً فيه سخط الله (على أن يكون تضرعه لله صادراً عن أعماق قلبه ومنطلقاً من تمام وجوده). 3 - الإرتباط بالنّاس: المتقون - إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق - لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم ﴿ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾. يلاحظ أن القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: ﴿ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾، وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية. فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الإجتماعية، وبعبارة اُخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه. الملاحظة الاُخرى: إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، وخاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ والرئة وسائر أجهزة البدن تنفق دائماً من ثمار عملها، والحياة الجماعية - أساساً - لا مفهوم لها دو نما إنفاق. الإرتباط بالنّاس في الحقيقة حصيلة الإرتباط بالله. فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نِعَم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معينة. ومن هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره ويفرحه، لأنه بالإنفاق قسّم مال الله بين عباد الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية. وهذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل والحسد، ويحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسؤول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقع من أحد جزاء. في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) بشأن تفسير الآية ﴿وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يقول: «إنَّ مَعْنَاهُ وِمِمّا عَلَّمْنَاهُمْ يَبُثُّونَ». بديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصاً بالعلم، بل إن الإمام الصادق يريد - بذكر هذا اللون من الإنفاق - أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصراً على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة. ومن هنا يتضح ضمنياً أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات الواجبة والمستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ بما غاب عن حواسهم من معرفة الصانع وصفاته والنبوة وقيام القائم والرجعة والبعث والحساب والجنة والنار ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ بإتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وحدودها وصيانتها عما يفسدها أو ينقصها ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ من الأموال والقوى والأبدان والجاه والعلم.