التّفسير
مصير المتكبرين:
البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئَه والعصاة من بني إسرائيل، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي: إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق - بسبب أعمالهم - عن قبول الحق.
وبعبارة أُخرى: إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإِلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثراً عجيباً، بحيث خلق منهم أفراداً متصلبين منغلقين دون الحق، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.
ولهذا يقول أوّلا: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحقّ).
ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبداً الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين - إنّها سنة إِلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم، ونظراً لإنتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.
وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر، ولا مستلزم لأي محذور آخر، حتى نَعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.
هذا، ولابدّ من الإلتفات - ضمنياً - إلى أنّ ذكر عبارة (بغير الحق) بعد لفظة: (التّكبر) إنّما هو لأجل التأكيد، لأنّ التكبر والشعور بالإستعلاء على الآخرين وإحتقار عباد الله يكون دائماً بغير حق، وهذا التعبير يشبه الآيه (61) من سورة البقرة، عندما يقول سبحانه: (ويقتلون النّبيين بغير الحق) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائماً بغير حق.
خاصّة أنّها أُردِفَت بكلمة "في الأرض" الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائماً بغير حق.
ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق "المتكبر المتعنت" وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.
الأُولى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية، (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) والثّالثة إنّهم على العكس (وإن يروا سبيل الغي يتّخذوه سبيلا).
بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق، أشار إلى عللها وأسبابها، فقال: (ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).
ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة - أو بضع مرات - لا يستوجب مثل هذه العاقبة، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح، والمستقيم والمعوج، أي يسلب القدرة على التمييز بين "الرشد" و"الغي".
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ﴾ عن إبطال دلائلي ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ متلبسين بالباطل وهو دينهم ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ لعنادهم ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ الهدى ﴿لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ﴾ الضلال ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ﴾ الصرف ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ بسبب تكذيبهم بها وإعراضهم عنها.