لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل: في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسى (عليه السلام) وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسى (عليه السلام) الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة. يقول في البدء: ولما عاد موسى (عليه السلام) إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة (ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي) (1). إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفاً، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسى (عليه السلام) بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ (قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك فَأضلّهم السامريّ ) (2). ثمّ إنّ موسى (عليه السلام) قال لهم: (أعجلتم أمر ربّكم). للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة، إلاّ أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة - أوّلا - دليلا على موتي، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة. وفي هذا الوقت بالذات، أي عندما واجه موسى (عليه السلام) هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه، ويثقل روحه حزن عميق، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإِصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّاً. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نَغمة مخالفة شاذة، وافقت هوى ورغبة، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمراً ممكناً وسهلا. فهنا لا بدّ أن يظهر موسى (عليه السلام) غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط، كي يوقظ الأفكار المخدَّرة لدى بني إسرائيل، ويوجد انقلاباً في ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة. إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة، إذ يقول: إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطاً غاضباً. وكما يستفاد من آيات قرآنية أُخرى، وبخاصّة في سورة طه، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة، وصاح به، لماذا قصّرتَ في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري (3). وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس - من جانب - حالة موسى (عليه السلام) النفسية، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، والفاتهم إلى بشاعة عملهم. وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحاً - فرضاً - وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحاً، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الإِنزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم... ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم... إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب، بل كان يعد عملا واجباً وضرورياً. ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبداً إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين، للتوفيق بين عمل موسى (عليه السلام) هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء، لأنّه يمكن أن يقال هنا: إنّ موسى (عليه السلام) انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجاً شديداً لم يسبق له مثيل، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ المشاهد ألا وهو الإنحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة. وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماماً. إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل، فقد قلب المشهد رأساً على عقبِ في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير. ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال - وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة - : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفاً إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني، فإذن أنا بريء، فلا تفعل بي ما سيكون موجباً لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين (قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين). إن التعبير ب- : "ابن أمّ" في الآية الحاضرة أو "يا ابن أمّ" (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسى (عليه السلام) في هذه الحالة الساخنة. وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه. ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ حزينا أو شديد الغضب ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ وعده الذي وعدنيه من الأربعين فلم تصبروا وقدرتم موتي وأشركتم ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾ ألواح التوراة غضبا لله وحمية للدين فمنها ما تكسر ومنها ما بقي ومنها ما ارتفع ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ بذؤابته ولحيته ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ غضبا إلى قومه كما يفعل الغضبان بنفسه أو سحبه معه حتى ينزل بهم العذاب ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ بفتح الميم وكسرها وذكر الأم استعطافا واستبعادا للعداوة بين بني أم واحدة وكان الأب واحد ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي﴾ لشدة إنكاري عليهم ﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء﴾ لا تسرهم بأن تفعل بي ما ظاهره الإهانة ﴿وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ بعبادة العجل أي من جملتهم في إظهار الغضب علي.