وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسى (عليه السلام) من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة، يقول موسى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة).
و"الحسنة" تعني كلَ خير وجمال، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم، وكذا التوفيق للعمل الصالح، والمغفرة، والجنّة، وكل نوع من أنواع السعادة، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.
ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا: (إنا هُدنا إليك) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.
و"هدنا" مشتقة من مادة "هَوْد" بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء، وكما قال بعض اللغويين: تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضاً، وكذا من الشر إلى الخير (1)، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.
يقول الراغب في "المفردات" نقلا عن بعض: "يهود في الأصل من قولهم: هُدنا إليك، وكان اسم مدح، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح".
ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير، أو من الخير إلى الشر، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.
وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم ب- "اليهود" لا يرتبط مطلقاً بهذه اللفظة، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة "يهوذا" الذي هو إسم لأحد أبناء يعقوب (عليه السلام) ثمّ تبدلت الذال إلى الدال، وصارت يهودا، فيطلق على المنسوب إليه يهودي (2).
ولقد أجاب الله - في النهاية - دعاء موسى (عليه السلام) وقَبِلَ توبته، ولكن لا بصورة مطلقة، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطاً بشروط، أذ يقول: (قال عذابي أصيب به من أشاء) وكان مستحِقاً.
وقد قلنا مراراً: إنّ "المشيئة" في هذه الموارد، بل في جميع الموارد، ليس بمعنى الإِرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.
ثمّ يضيف تعالى قائلا (ورحمتي وسعت كل شيء).
إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل، براً وفاجراً، صالحاً وطالحاً.
كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية، لأنّ النعم المعنوية لا تختَص بقوم دون قوم، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.
وبعبارة أُخرى: إن أبواب الرحمة الإِلهية مفتوحة للجميع، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).
ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة، أو سعة الرحمة الإِلهية وشموليتها، غير مقيدة وغير مشروطة، ومن دون حساب أو كتاب، يضيف في ختام الآية: سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور: اتقوا، وآتوا الزكاة، وآمنوا بآياتي (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون).
و"التقوى" إشارة إلى إجتناب كل معصية وإثم.
و"الزكاة" مرادة هنا بمعناها الواسع، وحسب الحديث المعروف "لكل شيء زكاة" يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.
وجملة (والذين هم بآياتنا يؤمنون) تشمل الإِيمان بالمقدسات.
وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجاً كاملا وجامعاً.
وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإِلهية، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الإجتماعية.
وقد روي في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللّهم ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً، فلمّا سلّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للأَعرابي: لقد تَحَجرْتَ واسعاً،أي جعلت شيئاً واسعاً، أمراً ضيقاً محدوداً فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس (3).
﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ نعمة وتوفيق طاعة ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾ حسنة الجنة ﴿إِنَّا هُدْنَا﴾ تبنا ﴿إِلَيْكَ﴾ من هاده أماله ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾ من العباد ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ في الدنيا البر والفاجر ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أثبتها في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الشرك والمعاصي ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ خصت بالذكر لفضلها أو لأنها أشق ﴿وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾.