لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يشرح العقوبات هكذا: (فلمّا عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (3). وواضح أن أمر "كونوا" هنا أمر تكويني مثل: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (4). بحوث: وهنا نقاط عديدة يجب الإِلتفات إليها: 1 - كيفَ ارتكبوا هذه المعصية؟ وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإِلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين. ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية، فقد أحدثوا أحواضاً إلى جانب البحر، وفتحوا لها أبواباً إلى البحر، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها، وأخذها من الأحواض، وكانوا يقولون: إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط (5). ويقول بعض المفسّرين: إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبتِ ولكن بصورة ماكرة. ويظهر من بعض الرّوايات الأُخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبتِ من دون مبالاة بالنهي الإِلهي، وليس بواسطة أية حيلة. ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر، أو إلقاء الكلاليب والصنارات، ثمّ لما صُغرت هذه المعصية في نظرهم، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجاً وعلناً، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جداً. 2 - من هم الذين نجوا؟ الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقاً واحداً من الفرق الثلاثة (العصاة، المتفرجون، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإِلهي وهم افراد الفريق الثّالث. وكما جاء في الرّوايات، فإنّه عندما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا: سنخرج من المدينة، فخرجوا إلى الصحراء ليلا، واتفق أن أصاب العذابُ الإِلهي كلا الفريقين الآخرين. وأمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط، ونجى الساكتون أيضاً، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة. 3 - هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة، لأنّه تعالى يقول: (فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه...) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة - أيضاً - أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب، لأنّه تعالى يقول: (أنجينا الذين ينهون عن السوء). من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء، بالرغم من أن العصاة أيضاً هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات. (6) 4 - هل المسخ كان جسمانياً أو روحانياً؟ "المسخ" أو بتعبير آخر "تغيير الشكل الإِنساني إلى الصورة الحيوانية" ومن المسلّم أنّه حدثٌ على خلاف العادة والطبيعة. على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة، وتغيير الشكل والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أُخرى، وقد شكّلت أسُس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة. ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال- "موتاسيون" والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية، لا الصفات الكليّة، يعني أنّه لم يشاهَد إلى الآن نوعاً من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال- "موتاسيون" إلى نوع آخر، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أُمّه. وعلى هذا الأساس، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمراً خارقاً للعادة. ولكن تقدم أنّ هناك أُموراً تحدث على خلاف العادة والطبيعة، وهذه الأُمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، وأحياناً تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعاً). وبناء على هذا، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول. ووجود مثل هذه الخوارق للعادة - كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء - لا هو إستثناء وخرق لقانون العلية، ولا هو خلاف العقل، بل هو مجرّد كسر قضية "عاديّة طبيعيّة" في مثل هذه الموارد، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين (7). بناء على هذا لا مانع من قبول "المسخ" على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضاً. ولكن بعض المفسّرين - و هم الأقليّة - قالوا: إنّ المسخ هو "المسخ الروحاني" والإِنقلاب في الصفات الأخلاقية، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين، مثل الإِقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الإِحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد. وما أخذه البعض على مسألة المسخ، وأنّه خلاف التكامل، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل، لا أُولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل، وخرجوا عن دائره هذا القانون. فعلى سبيل المثال: الإنسان السليم ينمو نمواً منتظماً في أعوام الطفولة، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجاً. ولكن يجب الإِنتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة، وجماعة أُخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم. على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن "القردة" ولم يجرِ أي حديث عن "الخنازير" ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية حسبما قال بعض المفسّرين: نزلت حول أصحاب السبت، فالكبار منهم الذين اطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير، والشباب المقلد لهم تقليداً أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة. ولكن على كل حال يجب الإِلتفات إلى أنّ الممسوخين - حسب الرّوايات - بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا، ولم يتولد منهم نسل أبداً. 5 - المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية، ولكن - كما أسلفنا - أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإِسلامية، وبناء على هذا تكون العقوبة الإِلهية التي جرت على هذا الفريق - بشدة - تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبداً بانقلاب ظاهره، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية، فالحرام حرام سواء أتي به صريحاً، أو تحت لفافات كاذبة، ومعاذير واهية. إنَّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين، ويكرّهه إليهم بشدّة. إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل - مضافاً إلى تشويه صورة الدين - هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه، ويجرّىء الإِنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئاً فشيئاً لإرتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة أنّ الإِمام عليّاً (عليه السلام) قال: "إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربّهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ (8) والسحت بالهدية، والربا بالبيع" (الخطبة 156). ويجب الإِنتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حَسَن أمام الناس، وإمّا خداع الضمير، وإكتساب طمأنينة نفسية كاذبة. 6 - أنواع الإبتلاء الإِلهي المختلفة صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقَّتة، وبهدف الإِختبار والإِمتحان عن مثل هذا العمل، ليرى مدى تفانيهم، ويختبر مدى إخلاصهم، وهذا هو أحد أشكال الإِمتحان الإِلهي. هذا مضافاً إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوماً مقدساً، وكانوا قد كُلّفوا - احتراماً لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية - والكف - عن الكسب والإِشتغال بالأعمال اليومية، ولكن سكان ميناء "أيلة" تجاهلوا كلَّ هذه الإِعتبارات والمسائل، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة. ﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ﴾ تكبروا عن تركه ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ مطرودين.