لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أجَلْ... (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون). إيضاح لما ورد عن عَالَم الذَّرِ. رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم، لكن كيف أُخِذَ هذا العهدُ؟! لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع، إلاّ أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإِسلامية "الواردة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) " ومن أهم هذه الآراء رأيان. 1 - حين خُلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسلِ له من البشر "وطبقاً لبعض الرّوايات ظَهرَ هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه" وكان لهذا الذرّ عقلٌ وشعور كافً للإِستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا (الستُ بربّكم) ؟!... فَأجاب الذرّ جميعاً: (بلى شهدنا). ثمّ عاد هذا الذرّ "أو هذه الذرات" جميعاً إلى صُلب آدم "أو إلى طينته" ومن هنا فقد سُميَ بهذا العالم بعالم الذرّ... وهذا العهدُ بعهد "ألست"؟ فبناءً على ذلك، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفاً هو عهد تشريعي، ويقوم على أساس "الوعي الذاتي" بين الله والناس. 2 - إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الإِستعداد "والكفاءات"، و"عهد الفطرة" والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأُمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الإستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السرّ الإِلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها. فبناءً على هذا، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته! ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة، إذ نقول مثلا: لون الوجه يُخبر عن سره الباطني "سيماهم في وجوهم"، أو نقول: إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية. وقد رُوي عن بعض أُدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامِهِ: سَل الأرض من شق أنهارَكِ وغرس أشجارَكِ وأينع ثمارَكِ؟ فإنّ لم تُجبكَ حواراً أجابتك اعتباراً!... كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال، كالآية (11) من سورة فصلت، إذ جاءَ فيها (فقال لها وللأرض إتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين). هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر... إلاّ أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات، ونعرضها في ما يلي: 1 - ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم، إذ قال تعالى... (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم. 2 - إذا كان هذا العهد قد أُخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور، فكيف نسيه الجميعُ؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعدَ مدىً من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر "أو القيامة"؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواءً كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة، فلا يمكن أن يُوجَّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبداً "ولا مجال لتأويله!". 3 - أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد، وألاّ يسلكوا إلاّ طريق معرفة الله، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبداً وبأي وجه كان، لأنّ الجميع نسوه!!... وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغواً ولا فائدة فيه. 4 - إنّ الإِعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم - في الواقع - القبول بنوع من التناسخ، لأنّه ينبغي - طبقاً لهذا التّفسير - أن تكون روح الإِنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانيةً، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيراً من الإِشكالات في شأن التناسخ! غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني، فلا يرد عليه أيُّ إشكال ممّا سبق، لأنّ السؤال والجواب، أو العهد المذكور - عهد فطري، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه، وكما يعبر عنه علماء النفس ب- "الشعور الديني" الذي هو من الإِحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإِنسان. وهذا الإِحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى "طريق" معرفة الله... ومع وجود هذا الإِحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدةً للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!... (فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها) (2). والإِشكال الوحيد الذى يَرِدُ على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا "كنائيّاً" ويتسم بلغة الحوار. إلاّ أنّه مع الإِلتفات إلى ما بيّناه آنفاً بأن مثل هذه التعابير كثير في لُغَةِ العرب وجميع اللغات، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال. ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه! عالم الذر في الرّوايات الإِسلاميّة: وردت روايات كثيرة في مختلف المصادر الإِسلاميّة من كتب الشيعة وأهل السنة حول عالم الذّر... بحيث تتصور لأوّل وهلة وكأنّها رواية متواترة... فمثلا في تفسير البرهان وردت 37 روايةً، وفي تفسير نور الثقلين وردت ذيل الآيات الآنفة 30 رواية بعضها مشترك والآخر مختلف، وبملاحظة الإِختلاف فيها فقد يصل مجموع ما ورد من الرّوايات إلى أربعين روايةً... إلاّ أنّنا سنجد - بعد التدقيق في مضامينها ومحتواها وتقسيمها إلى مجاميع، وفحصها - أنّه لا يمكن أن نعثر رواية واحدة معتبرة منها، فكيف يمكن الإِعتقاد بتواترها؟! إنّ أكثر تلك الرّوايات منقول عن زرارة، وبعضها عن صالح بن سَهْل، وبعضها عن أبي بصير، وبعضها عن جابر، وبعضها عن عبدالله بن سنان، ومن ذلك يظهر لنا أنّه لو روى شخص واحد روايات كثيرة لكنّها متحدة المضمون فهي تعد بحكم الرواية الواحدة، وبناءً على ذلك فسيقلّ عدد تلك الرّوايات الكثيرة وتتضاءل نسبتها وتبلغ ما بين 10 إلى 20 رواية، هذا من ناحية السند. أمّا من ناحية المضمومن والدليل فإنّ مضامينها تختلف بعضها عن بعض، فمنها ما يوافق التّفسير الأوّل، ومنها ما يوافق التّفسير الثّاني، وبعضها لا يوافق التّفسيرين... فالرّوايات المرقمة (رقم 3) و (رقم 4) و (رقم 8) و (11) و (28) و (29) والمروية عن زرارة في تفسير البرهان - ذيل الآيات محل البحث - تتفق والتّفسير الأوّل. وما روى عن عبدالله بن سنان في الروايتين (رقم 7) و (12) في تفسير البرهان نفسه، يتفق والتّفسير الثاني... أي أنّ بعض هذه الرّوايات مبهم، وبعضها يمثّلُ رموزاً وعبارات مجازية، كما في الروايتين (18) و (23) المرويتين عن أبي سعيد الخدري وعبدالله الكلبي، الواردتين في التّفسير آنف الذكر. وبعض الرّوايات يذكر "أرواح بني آدم" كما في الرواية (20) المرويّة عن المفضّل!... ثمّ إن الرّوايات - المذكورة آنفاً - بعضها ذو سند معتبر، وبعضها فاقد للسند أو مرسل. فبناءً على ذلك - وبملاحظة التعارض بين الرّوايات - لا يمكننا التعويل عليها على أنّها وثيقة معتبرة... وكما عبّر أكابر علمائنا في مثل هذه الموارد فإنّه ينبغي أن نتجنّب الحكم على مثل هذه الرّوايات، وأن نكلها إلى أصحابها ورواتها. وفي هذه الصورة نبقى متمسّكين بالنص القرآني، وكما ذكرنا أنفاً فإن التّفسير الثّاني أكثر انسجاماً مع الآيات. ولو كان أسلوبُنا في البحث التفسري يسمح لنا أن نذكر جميع طوائف الرّوايات، والتحقيق فيها - كنا أشرنا آنفاً - لفعلنا ذلك ليكون البحث أكثر وضوحاً. إلاّ أنّ الراغبين يمكنهم الرجوع إلى التّفسير "نور الثقلين، وتفسير البرهان، وبحار الأنوار"، وليبحثوا في مجاميعها ويصنفوها، وينظروا في أسانيدها ومضامينها. ﴿وَكَذَلِكَ﴾ التفصيل والبيان ﴿نُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ نبينها ليستدلوا بها ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن الباطل إلى الحق.