وفي الآية التّالية - استكمالا للموضوع آنف الذكر - دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت، عالم السموات والأرض، إذ تقول الآية: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).
ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع، عالم الخلق، عالم السموات والأرض، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثاً، وإنّما هناك هدف وراء خلقه.
ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحقيقة، هي من أجل ذلك الهدف، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.
و"الملكوت" في الأصل مأخوذ من "الملك" ويعني الحكومة والمالكية، والواو والتاء المزيدتان المردفتان به هما للتأكيد والمبالغة.
ويُطلق هذا الإِستعمال على حكومة الله المطلقة التي لا حدّ لها ولا نهاية.
فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوّي الإِيمان بالله والإِيمان بالحق، كما أنّه يكشف عن وجود هدف مهم في هذا العالم الكبير المنتظم أيضاً.
وفي الحالين يدعو الإِنسان إلى البحث عن ممثل الله ورَسول رحمته الذي يستطيع أن يطبق الهدف من الخلق في الأرض.
ثمّ تقول الآية معقبة... لتنّبههم من نومة الغافلين (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون).
أي: أوّلا: ليس الأمر كما يتصورون، فأعمارهم لا تخلد والفرص تمر مرّ السحاب، ولا يدري أحد أهو باق إلى غد أم لا؟! فمع هذه الحال ليس من العقل التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى غد.
ثانياً: إذ لم يكونوا ليؤمنوا بهذا القرآن العظيم الذي فيه ما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة الهادية إلى الإيمان بالله، فأي كتاب ينتظرونه خير من القرآن ليؤمنوا به؟
وهل يمكن أن يؤمنوا بكلام آخر ودعوة أُخرى غير هذه؟!
وكما نلاحظ فإنّ الآيات محل البحث تُوصد جميع سبل الفرار بوجه المشركين، فمن ناحية تدعوهم إلى أن يتفكروا في شخصيّة النّبي وعقله وسابق أعماله فيهم لئلا يتملّصوا من دعوته باتهامهم إيّاه بالجنون.
ومن ناحية أُخرى تدعوهم إلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، والهدف من خلقهما، وأنّهما لم يخلقا عبثاً.
ومن ناحية ثالثة تقول: (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) لئلا يسوّفوا قائلين اليوم وغداً وبعد غد الخ... ومن ناحية رابعة تقول: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنّهم لن يؤمنوا بأي حديث آخر وأي كتاب آخر، إذ ليس فوق القرآن كتاب أبداً... وأخيراً فإنّ الآية التالية، وهي آخر آية من الآيات محل البحث، تختتم الكلام بالقول (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون).
وكما ذكرنا مراراً فإن مثل هذه التعابير لا تشمل جميع الكفار والمجرمين، بل تختص بأُولئك الذين يقفون بوجه الحقائق معاندين ألدّاء، حتى كأنّما على أبصارهم غشاوة وفي سمعهم صمم وعلى قلوبهم طبع، فلا يجدون إلاّ أسدالا من الظلمات تحجب طريقهم.
وكل ذلك هو نتيجة أعمالهم أنفسهم، وهو المقصود بالإضلال الإِلهي (من يضلل الله).
﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ﴾ اعتبارا ﴿فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ﴾ من أصناف خلقه فيستدلوا به على الصانع ﴿وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ عطف على ﴿مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ﴾ وأن مصدرية أو مخففة واسمها ضمير الشأن أي أولم ينظروا في اقتراب أجلهم فيتبادروا إلى الإيمان لئلا يموتوا كفارا فيصيروا إلى النار ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي القرآن يؤمنون مع وضوح دلالته.