لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير وَساوِسُ الشّيطان: في هذه الآيات يبيّن القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم بأُسلوب أخّاذ رائق وجيز، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضاً. ففي الآية الأُولى - من الآيات محل البحث - إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجه الخطاب للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقولُ في البدايةُ (خذ العفوَ). العفو: قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحياناً، كما قد يأتي بمعنى الحدّ الوسط، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، وتأتي أحياناً بمعنى استسهال الأُمور. والقرائن الموجودة في الآية تدلّ على أنّ الآية محل البحث لا علاقة لها بالمسائل المالية وأخذ المقدار الإِضافي من أموال الناس، كما ذهب إليه بعض المفسّرين. بل مفهومها المناسب هو استسهال الأُمور، والصفح، واختيار الحدّ الوسط (1). ومن البديهي أنّه لو كان القائد أو المبلغ شخصاً فظاً صعباً، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس ويتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك) (2). ثمّ تعقيب الآية بذكر الوظيفة الثّانية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها الله عزّوجل قائلةً: (وأمر بالمعروف). وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئاً. أمّا الوظيفة الثّالثة للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أن يتحمل الجاهلين، فتقول: (وأعرض عن الجاهلين). فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفراداً متعصّبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتهم، ويُسيؤون الظن بهم ويحاربونهم. فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الإكثرات بمثل هذه الأُمور. والتجربة خير دليل على أنّ هذا الأُسلوب هو الأُسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك. وفي الآية التّالية دستور آخر، وهو في الحقيقة يمثل الوظيفة الرّابعة التي ينبغي على القادة والمبلغين أن يتحملوها، وهي أن لا يدعوا سبيلا للشيطان إليهم، سواء كان متمثلا بالمال أم الجاه أم المقام وما إلى ذلك، وأن يردعوا الشياطين أو المتشيطنين ووساوسهم، لئلا ينحرفوا عن أهدافهم. فالقرآن يقول: (وأمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم) (3). أجمع آية أخلاقية...: روي عن الإِمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "لا آية في القرآن أجمع في "المسائل" الأخلاقية من هذه الآية" (4) "أي الآية الأُولى من الآيات محل البحث". قال بعض الحكماء في تفسير هذا الحديث: إنّ أُصول الفضائل الأخلاقية وفقاً لأُصول القوي الإِنسانية "العقل" و"الغضب" و"الشّهوة" تتلخص في ثلاثة أقسام: 1 - الفضائل العقلية: وتدعى بالحكمة، وتتلخص بقوله تعالى: (وامر بالعرف). 2 - والفضائل النّفسية في مواجهة الطغيان والشهوة، وتدعى بالعفة، وتتلخص ب- "خذ العفو". 3 - والتسلط على القوة الغضبية، وتدعى بالشجاعة، وتتلخص في قوله تعالى (وأعرض عن الجاهلين). وسواء كان الحديث الشريف يدلّ على ما فسّره المفسّرون وأشرنا إليه آنفاً، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ، فهو يبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمّن منهجاً جامعاً واسعاً كليّاً في المجالات الأخلاقية والإِجتماعية، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإِيجابية البناءة والفضائل الإِنسانية. وكما يقول بعض المفسّرين: إنّ إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإِيجاز في المبنى، والسعة في المعنى، يتجلى في الآية محل البحث تماماً. وينبغي الإِلتفات إلى أنّ الآية وإن كانت تخاطب النّبي نفسه إلاّ أنّها تشمل جميع الأُمّة والمبلغين والقادة. كما ينبغي الإِلتفات إلى أنّ الآيات محل البحث ليس فيها ما يخالف مقام العصمة أيضاً، لأنّ الأنبياء والمعصومين ينبغي أن يستعيذوا بالله من وساوس الشيطان، كما أنّ أيّ أحد لا يستغني عن لطف الله ورعايته والإِستعاذة به من وساوس الشياطين، حتى المعصومين. وجاء في بعض الرّوايات أنّه لما نزلت الآية (خذ العفو...) سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل: لا أدري، حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال: "يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك (5) ". وجاء في حديث آخر أنّه لما نزلت آية (خذ العفو وامر بالمعروف وأعرض عنالجاهلين) قال النّبي: كيف يا ربّ والغضب؟ ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ ما عفا وتسهل من أخلاق الناس أو من أموالهم ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ ما حسن عقلا وشرعا ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ فقابل سفههم بالحلم.