لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب نزول غزوة بدر أوّل مواجهة مسلحة بين الإِسلام والكفر لما كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمّة وحساسة في تلك المعركة ليستلهم المسلمون من هذه الآيات الحقائق التي مرّت بهم في الماضي القريب، ويجعلوها أمام أعينهم للعبرة والإِتعاظ. ولإِيضاح الآيتين محل البحث والآيات التّالية، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة، وكيف كانت هذه المواجهة المسلحة الأُولى وهذا الجهاد الإِسلامي بوجه العدوّ اللدود؟ لتتجلى لنا دقائق الأُمور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى. بدأت معركة بدر - طبقاً لما يقول المؤرخون والمحدّثون والمفسّرون - حين كان أبوسفيان كبير مكّة عائداً بقافلة تجارية مهمّة مؤلفة من أربعين شخصاً، وتحوي على ثروة تجاربة تقدّر بحمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة. فأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه أن يتعبأوا ويتهيأوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جل رأس مال العدوّ معها، وبمصادرة أموال القافلة لتوجيه ضربة إقتصادية نحو العدوّ وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة. وكان للنّبي وأصحابه الحق في مثل هذه الحملة أو الهجوم، لأنّه - أوّلا - عندما هاجر المسلمون من مكّة نحو المدينة استولى أهل مكّة على كثير من أموالهم، ونزلت بهم خسارة كبيرة. فكان لهم الحق أن يجبروا مثل هذه الخسارة. ثمّ بعد هذا كلّه برهن أهل مكّة طيلة الثلاثة عشر عاماً التي أقام النّبي وأصحابه بمكّة خلالها أنّهم لا يألون جهداً في إيذاء النّبي وأصحابه، بل أرادوا به الوقيعة والمكيدة، فإنّ عدوّاً كهذا لن يسكت عن النّبي ودعوته بمجرّد هجرته إلى المدينة، ومن المسلم به أنّه سيعبىءُ قواه في المستقبل لمواجهة النّبي والإيقاع به. إذن فالعقل والمنطق يوجبان أن يسارع المسلمون بمبادرة عاجلة لمصادرة أموال أهل مكّة لتدمير دعامتهم الإِقتصادية، وليوفروا على أنفسهم إمكانية التهيؤ العكسري والإِقتصادي لمواجهة العدو مستقبلا. وهذه المبادرة كانت ولا تزال في جميع الخطط العسكرية قديمها وحديثها وأمّا من يرى أن توجّه النّبي نحو قافلة أبي سفيان - ودون الأخذ بنظر الإِعتبار هذه الجهات المشار إليها آنفاً - نوعاً من الإغارة، فإمّا أن يكون جاهلا لا يعرف جذور المسائل التأريخية في الإِسلام أو أنّه مغرض يريد تحوير الواقعيات والثوابت التاريخية. وعلى كل حال، فإنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النّبي على مواجهة قافلته، هذا من جهة، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإِتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان أرسل من يمضي إلى مكّة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة. فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه، وقد شقّ ثوبه - أو طمريه - وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس "إذ ظهره كان إلى رقبة البعير ووجهه إلى عجزه" ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكّة أخذ يصرخ قائلا: أيّها الناس الأعزة، أدركوا قافلتكم، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها، وإن كنت لا أعتقد أنّكم ستدركونها في الوقت المناسب، فإنّ محمّداً ورجالا مارقين من دينكم قد خرجوا من المدينة ليتعرضوا لقافلتكم. وكانت عاتكة بنت عبدالمطلب عمّة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آنئذ قد رأت رؤيا موحشة عجيبة، وقد تناقلت الأفواه رؤياها فيزداد الناس هيجاناً. وكانت عاتكة قد رأت قبل ثلاثة أيّام من مجيء رسول أبي سفيان إلى مكّة، أنّ شخصاً يصرخ: أيّها الناس تعجّلوا إلى قتلاكم، ثمّ صعد هذا المنادي إلى أعلى جبل أبي قيس وأخذ حجراً كبيراً فرماه فتلاشى الحجر في الهواء، ولم يبق بيت في مكّة لقريش إلاّ نزل فيه منه شيء، كما أن وادي مكّة يجري دماً عبيطاً. فلمّا استيقظت فزعة مرعوبة من نومها وقصّت رؤياها على أخيها العباس، ذهل الناس لهول هذه الرؤيا. لكن أبا جهل لما بلغه ذلك قال: ما رأت عاتكة رؤيا، هذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطلب، وباللات والعزّى لننظرن ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتاباً: أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم. ولكن لم يكد يمضي اليوم الثّالث حتى كان ما كان من أمر ذلك الرجل الذي هزّ مكّة وأهلها. ولما كان أكثر أهل مكّة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا نحو القافلة بحوالي 950 مقاتلا و 700 بعير ومئة فرس، وكان أبوجهل يقود هذا الجيش. ومن جهة أُخرى ولكي يسلم أبو سفيان من تعرض النّبي وأصحابه لقافلته، فقد غير مسيره واتجه نحو مكّة بسرعة. وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قارب بدراً في نحو من ثلائمائة وثلاث عشر رجلا كانوا يمثلون رجال الإِسلام آنئذ "وبدر منطقة ما بين مكّة والمدينة" وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهتِه. فتشاور النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه: هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها، أو أن عليهم أن يتهيأوا لمواجهة جيش العدوّ؟ فقالت طائفة من أصحابه: نقاتل عدوّنا، وكرهت طائفة أُخرى ذلك وقالت: إنّما خرجنا لمصادرة أموال القافلة. ودليلها معها، إذ أنّها لم تخرج إلاّ لهذا السبب (من المدينة) ولم يكن النّبي وأصحابه عازمين على مواجهة جيش أبي جهل ولم يتعبأوا لذلك، في حين أن أبا جهل قد تعبأ لهم ويريد قتالهم. وقد ازداد هذا التردد بين الطائفتين، خاصّة بعد أن عرف أصحاب النّبي أنّ جيش العدوّ ثلاثة أضعافهم وتجهيزاته أضعاف تجهيزاتهم، إلاّ أنّ النّبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل "أي قتال العدوّ" فلما التقى الجيشان لم يصدق العدوّ أن المسلمين قد وردوا الميدان بهذه القلّة، بل ظن العدوّ أنّهم مختبئون وأنّهم سيحدقون به عند المواجهة، لذلك فقد أرسل شخصاً ليرصد الأُمور فرجع وأخبرهم بأنّ المسلمين ليسوا أكثر ممّا رأوهم. ومن جهة أُخرى - كما أشرنا آنفاً - فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق وإضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب، إذ لا موازنة بين أصحاب النّبي وأصحاب أبي جهل! لكن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طمأنهم بوعد الله وقال: "إنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد" قافلة قريش أو جيش قريش، ولن يخلف الله وعده، فوالله لكأنّي أرى مصرع أبي جهل وجماعة من أصحابه بعينيّ. ثمّ أمر النّبي أن ينزل أصحابه إلى بئر بدر "وبدر في الأصل اسم رجل من قبيلة جُهينة حفر بئراً في ذلك الموضوع فسُميّت باسمه، وسمّيت الأرض بأرض بدر أيضاً". وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به، واتّجه نحو مكّة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق، وأرسل رسولا إلى قريش: إنّ الله نجيّ قافلتكم، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة، لأنّ له أعداءً يكفونكم أمره. إلاّ أنّ أبا جهل لم يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزّى أنّه سيواجه محمّداً، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه أو سيأسرهم جميعاً ويمضي بهم لمكّة، حتى يبلغ خبر هذا الإِنتصار آذان العرب. وأخيراً ورد جيش قريش أرض بدر وأرسلوا غلمانهم للإِستقاء من ماء بدر، فأسرهم أصحاب النّبي وأخذوهم للتحقيق إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم النّبي: من أنتم؟ فقالوا: يا محمّد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم ؟! فقالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم جزوراً؟ فقالوا: تسعة إلى عشرة. فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : القوم تسعمائة الى ألف (كل مئة يأكلون بعيراً واحداً). كان الجوّ مكفهراً بالرعب والوحشة، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججاً بالسلاح، ولديه المؤونة والعُدّدِ، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة. وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان. فلمّا رأي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أصحابه قلقون وربّما لا ينامون الليل من الخوف فيواجهون العدو غداً بمعنويات مهزورة قال لهم كما وعده الله: لا تحزنوا فإنّ كان عددكم قليلا فإنّ الله سيمدكم بالملائكة، وسرّى عن قلوبهم حتى ناموا ليلتهم مطمئنين راجين النصر على عدوّهم. المشكلة الأُخرى التي كان أصحاب النّبي يواجهونها، هي أن أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال، فنزل المطر تلك الليلة، فأفاد منه أصحاب النّبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صُلبة صالحة للنزال، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدوّ شديداً بحيث أربكهم وأزعجهم. والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النّبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلا حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف، فكأنّ الله أنزل عليها جيشاً من الرعب والوحشة. وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا عدوّهم، ولكن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - إتماماً للحجّة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية - أرسل إلى قريش ممثلا عنه ليقول لهم: إنّ النّبي لا يرغب في قتالكم لا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه. فوافق بعض قادة قريش على هذا الإِقتراح ورغبوا في الصلح، إلاّ أنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة. وأخيراً اشتعلت نار الحرب، فالتقى أبطال الإِسلام بجيش الشرك والكفر، ووقف حمزة عمّ النّبي وعلي ابن عمّ النّبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّاً وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فإنهار ما تبقى من معنويات العدوّ، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة، وكان قد أمر بقتل أصحاب النّبي من أهل المدينة "الأنصار" وأن يؤسر المهاجرون من أهل مكّة. فقال النّبي لأصحابه: "غضّوا أبصاركم وعضو على نواجذ ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم". ثمّ مدّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يديه إلى الدعاء، ورفع بهما نحو السماء فقال: "يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد..." فهبت ريح عاصف على العدوّ، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا للقتال حتى قتلوا منهم سبعين "وأبوجهل من القتلى" وأسروا سبعين، وانهزم الجمع وولّوا الدُبُر، ولم يُقتل من المسلمين إلاّ نفر قليل، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش، وإنتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم (1). التّفسير والآن وبعد أن عرفنا باختصار كيف كانت غزوة بدر، نعود ثانية إلى تفسير الآيتين. في الآية الأُولى - من الآي محل البحث - إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالا، إذ تقول الآية: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم). لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها (وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم). وقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلامية أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: "إحدى الطائفتين لكم، إمّا العير وإمّا النفير". وكلمة العير تعني القافلة، والنفير يعني الجيش. إلاّ أنّه - كما يلاحظ في الآية الكريمة، أنّ التعبير جاء بذات الشوكة مكان الجيش والنفير، وبغير ذات الشوكة مكان القافلة أو العير. وهذا التعبير يحمل في نفسه معنى لطيفاً، لأن الشوكة ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، ثمّ استعملت هذه الكلمة "الشوكة" في نصول الرماح، ثمّ أطلق هذا الإِستعمال توسعاً على كل نوح من الأسلحة، ولما كان السلاح يمثل القوّة والقدرة، والشدّة فقد عُبر عنه بالشوكة. فبناءً على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غيرالمسلحة، ولو إتفق أن يوجد فيها رجال مسلحون فهم معدودون لا يكترث بهم. أي أن فيكم من يرغب في مواجهة العدو غير مسلحة، وذلك بمصادرة أموال تجارته، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّاً منه للمنافع المادية، في حين أن الحرب اثبتت بعد تمامها أن الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية، لتكون الطريق لاحبةً لإِنتصارات كبيرة في المستقبل، ولهذا فإنّ الآية تعقب بالقول (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) (2). فعلى هذا، كانت واقعة بدر درساً كبير للمسلمين للإفادة منه في الحوادث الآتية، ويؤكّد لهم أن يتدبروا عواقب الأمور، ولا يكونوا سطحيين يأخذون بالمصالح الآنية، وبالرغم من أنّ بعد النظر يقترن بالمصاعب عادة، وقصر النظر على العكس من ذلك يقترن بالمنافع المادية والراحة المؤقتة، إلاّ أنّ النصر في الحالة الأُولى يكون شاملا ومتجذّراً، أمّا في الحالة الثّانية فهو انتصار سطحي موقت. ولم يكن هذا درساً لمسلمي ذلك اليوم فحسب، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي، فعليهم ألاّ يغضوا أبصارهم عن المناهج الأصولية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير الأُصولية قليلة الأتعاب. ﴿وَإِذْ﴾ واذكر إذ ﴿يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ﴾ العير أو النفير ﴿أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ أي تريدون العير لقلة الناس والسلاح فيها دون النفير لكثرة عدهم وعددهم والشوكة الحدة كنى بها عن الحرب ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ﴾ يثبته ويظهره ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ السابقة بالوعد بظهور الإسلام ﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ يستأصلهم.