والإِشكال الثّاني: لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة، من الآيات محل البحث، بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
وفي الحقيقة أنّ وجودك - يا رسول الله - الذي هو رحمة للعالمين، يمنع من نزول البلاء بسبب هذه الذنوب، فيهلك قومُك كما هلكت الأُمم السابقة جماعات أو متفرقين.
ثمّ تعقيب الآية بالقول: (وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون).
وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا: غفرانك ربّنا، وكان ذلك سبباً لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة.
وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إِلى من بقي من المؤمنين في مكّة، لأنّ بعضاً ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع من نزول العذاب.
كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إِلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.
كما لا يبعد - في الوقت ذاته - الجمع بين هذه الإِحتمالات كلّها في تفسير الآية، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إِلى جميع هذه الإِحتمالات.
وعلى أية حال، فإنّ مفهوم الآية لا يختصُّ بمعاصري النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس.
لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإِمام علي، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإِمام علي "ابن عباس" أنّه قال (عليه السلام) : "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، وقرأ هذه الآية" (2).
ويتّضح من الآية - محل البحث، والحديث آنف الذكر - أنّ وجود الأنبياء (عليهم السلام) مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الإِستغفار والتوبة والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الإِستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.
فإذا انعدم الإِستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب اللّه لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.
وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة، كالسيل مثلا، أو الحروب المدمّرة، أو في صور أُخرى.
وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإِمام على (عليه السلام) قوله "اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء".
فهذا التّعبير يدل على أنّه لولا الإِستغفار فإنّ كثيراً من الذنوب قد تكون سبباً في البلاء والكوارث.
وينبغي التذكير بهذه اللطيفة، وهي أنّ الإِستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة، كأن يقول المرءُ "اللهم اغفر لي" بل المراد منه روح الإِستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.
﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ بيان لسبب إمهالهم فيما سألوه ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي يستغفر فيهم بقية المؤمنين الذين لم يهاجروا عجزا.