التّفسير:
الأمر الذي لابدّ منه:
يعود القرآن في هذة الآيات الكريمة - ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إِلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير - يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على أهمية ذلك النصر العظيم.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى).
"العُدوة" مأخوذة من "العدو" على زنة "السَّرْو" ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إِلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي "الطرف، والجانب".
"والدنيا" مأخوذة من الدنّو، على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.
وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إِلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.
ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لإِضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.
ثمّ تعقّب الآية قائلةً: (والركُب أسفلَ منكم).
وكما رأينا من قَبلُ فإنّ أبا سفيان حين علم بتحّرك المسلمين غيّر مسير قافلته إِلى جهة أُخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريباً من مكّة، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).
لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و (ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بينة).
والمراد من "الحياة" و"الهلكة" هنا هو الهداية والضلال، لأنّ يوم بدر الذي سُمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإِمداد الإِلهي لنصرة المسلمين، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.
وتعقبّ الآية قائلةً: (وإنّ الله لسميع عليم).
فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نيّاتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.
إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم، مع أنّ طائفة أُخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة جميع الشدائد، لهذا فإنّ الله جعل الأُمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون - شاءوا أم أبوا - مع أعدائهم، فكانت المواجهة المصيرية.
وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إِلى النصر وبشارة به، فقد رواه (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.
وبالطبع فإنّ رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه كانت صحيحة، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية، إلاّ أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأُمور.
﴿إِذْ﴾ بدل من يوم الفرقان ﴿أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ جانب الوادي الأدنى من المدينة ﴿وَهُم﴾ أي النفير ﴿بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ جانبه الأبعد منها ﴿وَالرَّكْبُ﴾ العير بمكان ﴿أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ﴾ أنتم والنفير للقتال ثم علمتم ضعفكم وقوتهم ﴿لاَخْتَلَفْتُمْ﴾ أنتم ﴿فِي الْمِيعَادِ﴾ رهبة منهم ﴿وَلَكِن﴾ جمعكم بلا ميعاد ﴿لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ واجبا كونه وهو نصركم وقهركم ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ﴾ من حجة واضحة قامت عليه وهي وقعة بدر أو غيرها ﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ﴾ بالفك والإدغام ﴿عَن بَيِّنَةٍ﴾ يعلم الباقون أن الله نصره ﴿وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ﴾ للأقوال ﴿عَلِيمٌ﴾ بالعقائد والأعمال.