وتُذكّر الآية الأُخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال - كنزول المطر لرفع العَطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة - تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: (وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا).
أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إِلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّاً، بل رآهم أقل ممّا هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد (ويقلّلكم في أعينهم).
حتى روي عن أبي جهل أنّه قال: إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة.
أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.
وعلى كل حال: فقد كان تأثير هذين الامرين كبيراً في نصر المسلمين، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فزال كل خوف ورعب من نفوسهم، ومن جهة أُخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إِلى هزيمتهم.
لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلةً: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب، بل إن إرادته نافذة في كل شيء (وإلى الله تُرجَع الإمور).
وفي الآية (13) من سورة آل عمران إشارة إِلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر، إذ تشير إِلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الاسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق، أصابهم الذعر والخوف الشديد، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإِسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إِلى هزيمتهم وتمزقهم.
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض، لا بين الآيات محل البحث، ولا بينها وبين الآية (13) من سورة آل عمران، لإنّ كلاًّ من هذه الآيات تبيّن مرحلةً من مراحل المعركة.
فالمرحلة الأُولى: هي ما قبل القتال، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.
والمرحلة الثّانية: هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعَدَد الأعداء وعُدَدِه وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.
والمرحلة الثّالثة: هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم، وما رأوه من مشاهد قللّت عدد أعدائم في أعينهم "فتأملوا بدقّة!".
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾ أو سبعين أو مائة وهم نحو ألف لتثبتوا لهم ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ ليجترئوا عليكم ولا يتهيئوا لكم ﴿لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾ كرر لأن المراد بالأمر هناك الالتقاء على تلك الصفة وهنا إعزاز الإسلام وإذلال الشرك ﴿وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ ﴾.