التّفسير
المشركون والمنافقون ووساوس الشّيطان:
مرّة أُخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.
فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.
وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك).
فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين، فتبدأ بالقول: (وإذ زيّن لهم الشّيطان أعمالهم).
إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائياً من جميع الجهات، ويراه منطقياً نبيلا.
ثمّ تقول الآية: (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم).
ولن آلوَ جهداً في الدفاع عنكم، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه، وأُلازمكم ملازمة الظل للشاخص.
كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ اليها من اصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أُوتيت من قوّة.
فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.
ثمّ تقول الآية: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنّي بريء منكم).
واستدل على نكوصه وتراجعه القهقهري بدليلين هما:
أوّلا قوله: (إنّي أرى ما لا ترون).
فإنّه يرى آثار النصر جيداً في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها سمات اللطف الإِلهي والإِمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم، فمن الطبيعي أن يتراجع عندما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبية.
والثّاني قوله: (إنّي أخاف الله).
فإنّ الجزاء الإِلهي ليس أمراً يسيراً يمكنه أن يقف بوجهه، بل إنّه هو العذاب الأليم (والله شديد العقاب).
هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسداً لهم؟
جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إِلى قلوب المشركين، وقوله لهم في ساحة معركة بدر، وكيفية حصول ذلك، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين:
1 - يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم، إلاّ أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين، والحوادث الإِعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم، أحسوا بالإِنكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبداً سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإِلهي والعذاب الشديد.
2 - ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإِنسان، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيراً: إنّ قريشاً عندما قررت التحرك والمسير نحو بدر، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة "سراقة بن مالك" الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر، وأنّهم سينتصرون، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عندما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.
وقالت قريش بعد عودتها لمكّة: إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش، فوصل الخبر إِلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك، وعندما قصّ عليه بعضهم ما كان منه في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأُمور شيء أبداً، فُعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك (1).
ودليل الطائفة الأُولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.
بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبداً، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجي، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إِلى دار الندوة، وإضافة إِلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.
وعلى أية حال، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأُمور والقضايا الجماعية، فإنّ سلسلة من الإِمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم، وهي تظهر في مختلف الصور، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.
﴿وَإِذْ﴾ واذكر إذ ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ من حرب الرسول وغيره بوسوسته إليهم ﴿وَقَالَ﴾ حين تصور بصورة سراقة بن مالك وأخذ الراية يقدمهم ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ لكثرة عددكم وعددكم ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ مجيركم ﴿فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ﴾ التقى الجمعان ﴿نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ رجع هاربا أي بطل كيده ﴿وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ من جنود الملائكة ﴿إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ﴾ أن يهلكني بأيديهم ﴿وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ من كلامه أو مستأنف.