لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التالية توجّه اللوم والتعنيف ثانية لأولئك الذين يعرضون المنفعة العامّة والمصلحة الإِجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة، فتقول الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وقد أورد المفسّرون في شأن قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) احتمالات مختلفة كثيرة، إلاّ أنّ أقربها وأكثرها ملاءمة ومناسبةً هو "إذا لم يكن الله قد قرر من قبل أن لا يعذب عباده ما لم يبيّن نبيّه حكمه لهم، لأخذكم أخذاً شديداً بسبب تأسيركم عدوكم رغبة في المنافع المادية وإيقاعكم جيش الإسلام وانتصاره النهائي في الخطر، إلاّ أنّه - كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن - فإنّ سُنة الله اقتضت أن تُبين أحكامه ثمّ يجازي الذي يخالفون عن أمره"، إذ قال سبحانه: (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا) (1). ملاحظات 1 - إنّ ظاهر الآيات - كما قلنا آنفاً - يعالج موضوع أخذ الأسرى في الحرب لا أخذ "الفدية" بعدها، وبذلك ينحل كثير من الإِشكالات التي أثارها جماعة من المفسّرون بشأن مفهوم الآية. كما أنّ اللوم والتعنيف يختص بجماعة إنشغلت - قبل أن يتمّ النصر النهائي - بأسر العدو لأهداف دنيوية، ولا علاقة لها بشخص النّبي وأصحابه المؤمنين الذين كان هدفهم الجهاد في سبيل الله. وبذلك تنتفي جميع البحوث التي أوردوها، كالقول بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد إرتكب ذنباً! وكيف ينسجم هذا العمل وعصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فهذا الأمر غير صحيح. كما يثبت بطلان الأحاديث المختلفة التي نقلتها بعض مصادر أهل السنة وكذبها في تفسير هذه الآية، والتي تزعم أن الآية (2) نزلت في شأن أخذ النّبي وبعض المسلمين الفدية مقابل أسرى الحرب بعد معركة بدر، وقبل أن يأذن الله بذلك. وأنّ الذي خالف هذا الأمر وطالب بقتل الأسرى هو عمر فحسب - أو سعد بن معاذ - وأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق عمر: لو نزل العذاب علينا لما نجا منه إلاّ عمر - أو سعد بن معاذ ـ. فإنّ جميع ذلك عار من الصحة ولا أساس له، وإنّ تلك الرّوايات بعيدة كل البعد عن تفسير الآية، وخاصّة أن أمارات الوضع ظاهرة على هذه الأحاديث تماماً. 2 - إنّ الآيات محل البحث لا تخالف أخذ الفداء وإطلاق سراح الأسرى إذا اقتضت مصلحة المجتمع الإِسلامي ذلك، بل تقول هذه الآيات: إنّه لا ينبغي على المجاهدين أن يكون همهم الأسر من أجل الفداء، فبناءً على ذلك فهي تنسجم وتتفق والآية (رقم 4) من سورة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع الوجوه، إذ تقول تلك الآية (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً). إلاّ أنّه يجب الإِلتفات إِلى مسألة مهمّة هنا، وهي: إذا كان بين الأسرى من يثير إطلاق سراحهم فتنة نشوب نار الحرب، ويُعرض انتصار المسلمين للخطر،فيحق للمسلمين أن يقتلوا مثل هؤلاء الأشخاص، ودليل هذا الموضوع كامن في الآية محل البحث ذاتها، بقرينة "يثخن" والتعبير في الآية (رقم 4) من سورة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ب- "أثخنتموهم". ولهذا فقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلاميّة أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل اثنين من أسرى معركة بدر، وهما "عقبة بن أبي معيط" و"النضر بن الحارث" ولم يرض بأن يفتديا أنفسهما أبداً (3). 3 - وفي الآيات محل البحث تأكيد على موضوع حرية إرادة الإِنسان مرّة أُخرى، ونفي مذهب الجبر، لأنّها تقول: إنّ الله يريد لكم الآخرة، ولكن بعضكم أغرته المنافع الماديّة العابرة وركن إليها. وفي الآية التالية إشارة إِلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب، وهو حكم أخذ الفداء. وقد جاء في بعض الرّوايات (4) الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد إنتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى، وبعدما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين "عقبة بن أبي معيط" و"النضر بن الحارث" خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فُيحرموا من أخذ الفداء، فقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين، وكلّهم من قبيلتك فهب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم. وكان النّبي يترقب نزول الوحي، فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى. وروي أنّ أكثر ما عُين فداءً على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم، وأقلّه ألف درهم، فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها. والعجيب أن صهر النّبي على إبنته زينب "أبا العاص" كان من بين أسرى معركة بدر، فأرسلت زوجته القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها، وتجسّدت مواقفها أمام عينيه، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "رحم الله خديجة، فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب. ووفقاً لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراماً لخديجة وإكراماً، واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة، فأذنوا له أن يرجع القلادة إِلى زينب، ثمّ أطلق (5) النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سراح أبي العاص، شريطة أن يرسل ابنته زينب - التي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإِسلام - إِلى المدينة، فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ (6).زينب قلادتها التي أهدتها أُمّها خديجة (عليها السلام) إليها في زفافها، لتفتدي بها زوجها، فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ﴾ حكم ﴿مِّنَ اللّهِ سَبَقَ﴾ وهو أنه لا يعذب بما لم ينه عنه صريحا وأنه سيحل لكم الفداء ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ لأصابكم ﴿فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾ من الفداء ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ من باب إياك أعني.