و بعد فاصلة وجيزة، يتناول القرآن الكريم مجدداً الإستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).
"مرج" من مادة "المرج" (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.
"عذب" بمعنى سائغ وطيب وبارد، و"فرات" بمعنى لذيذ وهنيء.
"ملح" بمعى مالح، و"أجاج" بمعنى مُرّ وحار. (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات).
"برزخ" بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.
و جملة (حجراً محجوراً) كما أشرنا سابقاً (ذيل الآية 22 من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه، يعني (أعفُ عنا، وآمنا، وابتعد عنا).
على أية حال، فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.
و قد اتّضح اليوم أن هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك "التفاوت بين كثافة المالح والعذب" وفي الإصطلاح "تفاوت الوزن النوعي" لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.
و رغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل، تشكل بحراً من الماء العذب، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الإمتزاج مع بعضهما، فكل واحد منهما يقول للآخر: (حجراً محجوراً).
الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحراً اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر، وزرعوا اراض شاسعة بالاشجار، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر.
توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسماً منها يسقى فقط بهذه الوسيلة، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر، وأحياناً يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة، لأنّ ذلك يضرُّ بزراعتهم ضرراً بالغاً.
لكن العادة ليست كذلك، فهذا الماء "العذب الفرات" المستقر إلى جوار الماء "المالح والأجاج" يُعدُّ ذخيرة عظيمة لهم.
معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبداً، وإلاّ فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلاّ فعل الله وإرادته ومشيئته، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات.
و الملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة، يرى جيداً هذان الماءان المختلفان في اللون، غير الممتزجين، فيذكّر هذا المشهد الإِنسان بهذه النكتة القرآنية.
إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ "الكفر" و"الإيمان" ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، و نمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.
﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ خلاهما متلاصقين ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ بليغ العذوبة ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة أو مر ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا﴾ حاجزا من قدرته يمنعهما التمازج ﴿وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾.