لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ "عباد الرحمن" التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإِنفاق، فيقول تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). الملفت للإنتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمراً مسلماً لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم. في تفسير "الإسراف" و "الإقتار" كنقطتين متقابلتين، للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أنّ "الإسراف" هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و"الإِقتار" هو أن ينفق أقل من الواجب. في إحدى الروايات الإِسلامية، ورد تشبيه رائع للإِسراف والإِقتار وحد الإِعتدال، تقول الرّواية: تلا أبو عبد الله(ع) هذه الآية: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً). قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإِقتار الذي ذكره الله عزَّوجلّ في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى كفَّه كلَّها، ثمّ قال: هذا الإِسراف، ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام".(6) كلمة "قوام" (على وزن عوام) لغة بمعنى العدل والإِستقامة والحد والوسط بين شيئين، و"قُوام" (على وزن كتاب): الشيء الذي يكون أساس القيام والإستقرار. مسألتان 1 - طريقة مشي المؤمنين قرأنا في الآيات أعلاه أنّ التواضع أحد علائم "عباد الرحمن"، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحياناً أن يتوهم البعض في التواضع ضعفاً وعجزاً وخوراً وكسلا، وهذا النمط من التفكير خطير جدّاً. التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع. نقرأ في سيرة النّبي(ص) أن أحد أصحابه يقول: "مارأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول اللّه(ص) ، كأنّما الأرض تطوى له، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير مكترث".(7) ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(ع) في تفسير الآية (الذين يمشون على الأرض) أنّه قال: "والرجل يمشي بسجيته التي جُبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر".(8) وورد في حديث آخر، في حالات النّبي(ص): "قد كان يتكفأ في مشيه كإنّما يمشي في صبب".(9) يعني حينما كان الرّسول الأكرم(ص) يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال، كأنّما يمشي في منحدر. على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب "عباد الرحمن". 2 - البخل والإسراف لا شك أنّ "الإِسراف" واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات، فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: (وإنّ فرعون لعال في الأرض وأنّه لمن المسرفين).(10) والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم (وإن المسرفين هم أصحاب النار).(11) ومع الإلتفات إلى أنّه أصبح ثابتاً اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست كثيرة جداً نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف، وكل إسراف سيكون سبباً في حرمان أُناس لا ذنب لهم، فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله. في تفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضاً، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة، فالأصل على أساس النظرة التوحيدية، أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي، ونحن جميعاً مستخلفون من قبله، وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول، ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإِسراف ولم يأذن بالبخل. ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ لم يجاوزوا الحد في النفقة ولم يضيقوا فيها أولم ينفقوا في المعاصي ولم يمنعوا الحقوق ﴿وَكَانَ﴾ إنفاقهم ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ بين الإسراف والإقتار ﴿قَوَامًا﴾ من استقامة الطرفين.