الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء (والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إن الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.
من المسلَّم أنّ أفراداً كهؤلاء لا يقصرون في بذل مالديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام، وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم، فإنّهم يدعون الله، يسألونه التوفيق بلطفه.
فالدعاء الصحيح من حيث الأصل، ينبغي أن يكون هكذا: السعي بمقدار الإستطاعة، والدعاء خارج حدّ الإستطاعة.
"قرّة العين" كناية عمّن يُسرَّ به، هذا التعبير أُخذ في الأصل من كلمة "قر" التي بمعنى البرد، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة، ودموع الحزن والغم حارة حارقة، لذا فـ "قرّة عين" بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين الإنسان، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.(2)
مسألة تربية الأبناء وإرشاد الزوجات، ومسؤولية الآباء والأمهات إزاء أطفالهم من أهم المسائل التي أكد عليها القرآن، وسنفصل القول فيها إن شاء الله في ذيل الآية (السادسة) من سورة التحريم.
وأخيراً فالصفة الرفيعة الثّالثة عشر لعباد الرحمن التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل أن همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً.
إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إن سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى.
لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: (واجعلنا للمتقين إماماً).
ينبغي الإلتفات إلى هذه النكتة أيضاً، إنّهم لا يدعون ليكونوا في موقع العظماء جزافاً، بل إنّهم يهيئون أسباب العظمة والإمامة بحيث تجتمع فيهم الصفات اللائقة بالقدوة الحقيقية، وهذا عمل عسير جداً، وله شرائط صعبة وثقيلة.
ولا ننس أنّ القرآن لا يذكر في هذه الآيات صفات جميع المؤمنين، بل أوصاف نخبة ممتازة من المؤمنين في الصف المتقدم بعنوان "عباد الرحمن". نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أن رحمة الله العامّة تشمل الجميع فإنّ رحمة الله بهؤلاء العباد عامّة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق الله.
أُولئك نماذج وأُسوات المجتمع الإنساني.
أُولئك قدوات المتقين.
إنّهم أنوار الهداية في البحار والصحاري. ينادون التائهين إليهم لينقذوهم من الغرق في الدوامة، ومن السقوط في المزالق.
نقرأ في روايات متعددة أنّ هذه الآية نزلت في علي(ع) وائمّة أهل البيت(ع).
ونقرأ في رواية أخرى عن الإمام الصادق(ع): "إيانا عنى".(3)
ولا شك أن أئمة أهل البيت(ع) من أوضح مصاديق هذه الآية، لكن هذا لا يمنع من اتساع مفهوم الآية، فالمؤمنون الآخرون أيضاً يكون كل منهم إماماً وقدوة للآخرين بمستويات متفاوتة.
واستنتج بعض المفسّرين من هذه الآية أن طلب الرئاسة المعنوية والروحانية ليس غير مذموم فقط، بل إنه مطلوب ومرغوب فيه أيضاً.(4)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة "إمام" وإن كانت للمفرد، إلاّ أنّها تأتي بمعنى الجمع، وهكذا هي في الآية.
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ بأن نراهم مطيعين لك ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ يقتدون بنا في الدين بأن توفقنا للعلم والعمل، ووحد لدلالته على الجنس أو لإرادة كل واحد منا وفي قراءتهم (عليهم السلام) واجعل لنا من المتقين إماما.