تؤكد الآية على صفة اُخرى من صفات إبراهيم التي هي الواقع أساس بقية صفاته العظيمة وتقول: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
هذا الإِنسان المتحرر من الإِنشدادات الوضيعة يسارع إلى التسليم التام حال سماعه نداء ربّه: «أسلم»، ولا يتوانى في رفض كل أوهام زمانه القائمة على عبادة النجوم والشمس والقمر، فيتركها بعد أن رآها محكومة بالقوانين التي تسود الخليقة ويقول: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
مرّ بنا في الآيات السابقة أن إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) بعد بناء الكعبة طلبا من الله سبحانه أن يتقبل أعمالهما، ثم بعد ذلك طلبا أن يمنّ عليهما الله بنعمة التسليم لوجهه الكريم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ﴾ ومثل هذا طلباه لذريّتهما: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾.
ذلك لأن الخطوة الاُولى في سموّ الشخصية الإِنسانية الطهر والإِخلاص، ومن هنا أسلم إبراهيم (عليه السلام) وجهه لربّه دون سواه، ولذلك عرف هو ودينه بهذا العنوان.
حياة إبراهيم (عليه السلام) بأجمعها كانت مفعمة بأعمال جسيمة نادرة، نضاله المرير ضد المشركين، صموده الكبير في قلب النيران، هذا الصمود الذي أثار إعجاب نمرود الطاغية نفسه حيث راح يردد دون وعي: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلهاً فَلْيَتَّخِذْ إِلهاً مِثْلَ إِلهِ إِبْرَاهِيمَ﴾.
وكذلك إسكان الزوج والطفل الرضيع في تلك الأرض الجافة القاحلة... والمقدسة، وبناء الكعبة، وتقديم الولد على مذبح التضحية والفداء استجابة لأمر الله تعالى... كل واحدة من هذه الأعمال قمة من سلسلة قمم حياة إبراهيم (عليه السلام).
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ظرف لاصطفيناه أو لأذكر مقدرا.