سبب النزول
هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات - محل البحث - منقولة في كتب أهل السنة والشيعة، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.
يروي "أبو القاسم الحسكاني" عالم أهل السنة المعروف، عن بريدة، أن "شيبة" و"العباس" كان يفتخر كلُّ منهما على صاحبه، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: فيم تتفاخران؟
فقال العباس: حُبيت بما لم يُحبَ به أحد وهو سقاية الحاج.
فقال شيبة: إني أعمر المسجد الحرام، وأنا سادن الكعبة.
فقال علي (عليه السلام) : على أنّي مستحي منكما، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما.
فقالا: وما ذاك؟!
فقال: جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فخرج العباس مغضباً إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاكياً عليّاً فقال: ألا ترى ما يقول؟
فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : أدعو لي عليّاً فلمّا جاءه علي قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لِمَ كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟
فقال (عليه السلام) : إذا كنت أغضبته، فلما بينّتُ من الحق، فمن شاء فليرضَ بالقول الحق ومن شاء فليغضب.
فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول: اتل هذه الآيات: (اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) (1).
وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة، كتفسير الطبري والثعلبي، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي، ومعالم التنزيل للعلاّمة البغوي، والمناقب لابن المغازلي، وجامع الأصول لابن الأثير، وتفسير الفخر الرازي، وكتب أُخرى. (2)
وعلى كل حال، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة، التي يقرّ بها حتى المتعصبون، وسنتكلم عنه مرّة أُخرى بعد تفسير الآيات.
التّفسير
مقياس الفخر والفضل:
مع أنّ للآيات - محل البحث - شأناً في نزولها، إلاّ أنّها في الوقت ذاته تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة، ونظير ذلك كثير في القرآن.
فالآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم والآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
"السقاية" لها معنى مصدريٌ وهو إيصال الماء للآخرين، وكما تعني المكيال، كما جاء في الآية 70 من سورة يوسف (فلمّا جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) وتعني الإِناء الكبير أو الحوض الذي يُصب فيه الماء.
وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى ب- "سقاية العباس" وكان معروفاً آنئذ، ويبدو أنّ هناك إناءً كبيراً فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.
ويحدثنا التأريخ أنّ منصب "سقاية الحاج" قبل الإِسلام كان من أهل المناصب، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إِلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة (3) التي يقل فيها الماء، وجوّها حار أغلب أيّام السنة، وكانت هذه الحاجه الماسة تولي موضوع "سقاية الحاج" أهميّة خاصّة، ومن كان مشرفاً على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.
وكذلك "عمارة المسجد الحرام" أو سدانته ورعايته، كان لها أهميته الخاصّة، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزاً دينياً، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترماً.
ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإِيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي أهل السقاية والعمارة ﴿كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ كإيمان من آمن نزلت حين افتخر العباس وشيبة بالسقاية والحجابة وعلي وحمزة وجعفر بالإيمان والجهاد في سبيل الله ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين بل يتركهم وما اختاروا من الضلال وهو بيان لعدم استوائهم.