أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع، فتخاطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعنف أُولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفاً، فتقول (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
ولما كان ترجيح مثل هذه الأُمور على رضا الله والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلةً (والله لا يهدي القوم الفاسقين).
وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين مايلي: "لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك، جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) الخ... والآيتان - محل البحث - ترسمان خطوط الإِيمان الأصيل وتميزانها عن الإِيمان المبطن بالشرك والنفاق.
كما أنّهما تضعان حداً فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإِيمان، وتقول إحداهما بصراحة: إن كانت هذه الأُمور الثمانية "في الحياة المادية" التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب (آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم).
ويتعلق قسم منها بالمجتمع و"العشيرة".
والقسم السّادس يرتبط بالمال.
والسابع بالتجارة والإِكتساب.
وأمّا الثامن - وهو الأخير - فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة "ومساكن ترضونها".
فإذا كانت هذه الأُمور الثمانية - المذكورة آنفاً - أغلى وأعزّ وأحب عند الإِنسان من الله ورسوله، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره، حتى أن الإِنسان لا يكون مستعداً بالتضحية بتلك الأُمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعدُ!
فحقيقة الإِيمان وروحه وجوهره، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأُمور من دون تردد.
أضف إِلى ذلك، فإن من لم يكن مستعداً للتضيحة بمثل تلك الأُمور، فقد ظلم نفسه ومجتمعه في الواقع، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأُمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.
ملاحظات
1 - ما قرأناه في الآيتين - محل البحث - ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام، وإهمال رؤوس الأموال الإِقتصادية، والإِنسياق إِلى تجاوز العواطف الإِنسانية وإلغائها، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إِلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله، أو لا نرغب في الجهاد، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.
لهذا يلزم على الإِنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين "العلاقة بالله والعلاقة بالرحم".
فنحن نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).
2 - إنّ أحد تفاسير جملة (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ما أشرنا إليه آنفاً، وهو التهديد من قبل الله لأُولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدَّ وحشة وإشفاقاً، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره، فيقول له: إذا لم تفعل ما أمرتك، فسأقوم بما ينبغي أيضاً.
وهناك إحتمال آخر لتفسير الجملة - محل البحث - وهو أنّ الله سبحانه يقول: إذا لم تكونوا مستعدين للتضيحة، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر.
وكيف شاء، إذ ليس ذلك بعسير عليه.
ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة، إذ نقرأ فيها (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه).
الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر:
1 - قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإِسلام والتاريخ الماضي، إلاّ أنّ ذلك خطأ كبير، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضاً.
فإذا قُدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم الخ... في سبيل الله، ولا يكون لهم إيمان متين، ويفضلون الأمور المادية على ر ضا الله، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا، فيكون مستقبلهم مظلماً، لا مستقبلهم فحسب، بل حتى يومهم هذا، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الاجانب ويفقدون معنى الحياة، لأن الحياة هي حياة الإِيمان والجهاد في ظل الإِيمان.
فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب اطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعاراً لنا، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.
﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ أقرباؤكم وقرىء عشيراتكم ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ عدم نفاقها ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ فأثرتموه على الهجرة والجهاد ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ فانتظروا ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بعقوبته أو بحكمه تهديد لهم ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ إلى ثوابه.