لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق "الإِسلام" لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: (ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم). وجملة "يتوب" التي وردت بصيغة الفعل المضارع، والتي تدل على الإِستمرار، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائماً بوجه التائبين. ملاحظات 1 - غزوة حنين ذات العبرة "حُنين" منطقة قريبة من الطائف، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها، وقد عُبّر عنها في القرآن ب- "يوم حنين" ولها من الأسماء - غزوة أوطاس، وغزوة هوازن أيضاً. أمّا تسميتها بأوطاس، فلأن "أوطاس" أرض قريبة من مكان الغزوة - وأمّا تسميتها بهوازن، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تُدعى بهوازن. أمّا كيف حدثت هذه العزوة، فبناءً على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله: من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة، فقالوا: من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا. فلما بلغ ذلك النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر المسلمين أن يتوجهوا إِلى أرض هوازن (2). وبالرغم من عدم الإِختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها، إلاّ أنّ في جُزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي، بناءً على روايته القائلة: إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إِلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أُخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس. فعقد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لواءَه، وسلمّه عليّاً (عليه السلام) وأمر حَمَلة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إِلى حُنين، واطّلع النّبي أن صفوانَ بن أمية لديه دروع كثيرة، فأرسلَ النّبي إليه أن أعرنا مئة درع، فقال صفوان: أتريدونها عاريةً أم غصباً؟ فقال النّبي: بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك، فأعطى صفوان النّبي مئة درع على أنّها عارية، وتحرك مع النّبي بنفسه إِلى حُنين. وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة، فأضيف عددهم إِلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة، وصاروا حوالي اثني عشر ألفاً، وتحركوا نحو حنين. فقال مالك بن عوف - وكان رجلا جريئاً شهماً - لقبيلته: اكسروا أغماد سيوفكم، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار، واكمنوا لجيش الإِسلام، فإذا جاءوكم الغداة "عتمةً" فاحملوا عليهم وأبيدوهم. ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا: إن محمّداً لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانَاً، ليذوق مرارة الهزيمة!! فلما صلّى النّبي صلاة الغداة "الصبح" بأصحابه أمر أن ينزلوا إِلى حنين، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإِسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش، فكان أن ذُهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم. فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو، وترك الجيشين على حالهما، ولم يحمِ المسلمين لغرورهم - مؤقتاً - حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم. إلاّ أنّ عليّاً حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم، وفيهم عمه العباس، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن. فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس - وكان جهير الصوت - أن يصعد على تل قريب وينادي فوراً: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إِلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم). فلّما سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا: لبيّك لبيّك، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة، وتقدّموا بأذن الله ونصره، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مئة شخص من هوازن، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم (3). ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم، وأبدى لهم النّبي صفحه وحُبّه، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضاً. والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين باديء الأمر - بالإِضافة إِلى غرورهم لكثرتهم - هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثاً وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعاً، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم، وجماعة منهم كانوا بلا هدف، فأثر فرار هولاء في بقية الجيش. أمّا السرّ في إنتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وجماعة قليلة من الأصحاب، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إِلى لطفه الخاص ونصره. 2 - من هم الفارّين ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّت باديء الأمر من ساحة المعركة، وما تبقى منهم كانوا عشرةً فحسب، وقيل أربعة عشر شخصاً، وأقصى ما أوصل عددُهم المؤرخون لم يتجاوزوا مئة شخص. ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة، فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمراً طبيعياً. يقول صاحب تفسير المنار ما ملَخصُه: لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة، وفيهم المنافقون وضعاف الإِيمان والطامعون "للغنائم" ففرّ هؤلاء جميعاً وتقهقروا إِلى الخلف، فاضطرب باقي الجيش طبعاً، وحسب العادة - لا خوفاً - فقد فرّوا أيضاً، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضاً - ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه، حتى يستحقوا غضب الله!! (4) ونحن لا نعلّق على هذا الكلام، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم. كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ "صحيح البخاري" حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي: فإذا عمر بن الخطاب في الناس، وقلت: (الراوي) : ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثمّ تراجع الناس إِلى رسول الله (5). غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة، وإلتفتنا إِلى القرآن الكريم، وجدناه لا يذم جماعةً بعينها، بل يذم جميع الفارين. ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى (ثمّ وليتم مدبرين) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث، وبين عبارة أُخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول (ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إِلى فئة فقد باء بغضب من الله) ؟! فبناءً على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إِلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين إرتكبوا خطأً كبيراً يومئذ إلاّ القليل منهم، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا. 3 - الإِيمان والسكينة السكينة في الأصل مأخوذة من السكون، وتعني نوعاً من الهدوء أو الإِطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والإِستيحاش عن الإِنسان، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإِيمان، أي أنّ السكينة وليدة الإِيمان، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء. وما نراه من تفسير السكينة بالإِيمان في بعض الرّوايات (6)، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان (7) كل ذلك ناظر إِلى هذا المعنى. ونقرأ في القرآن في الآية (رقم 4) من سورة الفتح قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإِنسان أن يهضم الحوادث الصعبة، وأن يحس في نفسه عالماً من الدعة والإِطمئنان برغم كلّ ما يراه. وممّا يسترعي النظر أن القرآن - في الآيات محل البحث - لا يقول: ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم)، بل تقول الآية (على رسوله وعلى المؤمنين) وهي إشارة إِلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهماً من السكينة والإِطمئنان، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب. ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله (8)، فلذلك كانوا - في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها - أصحاب عزم راسخ وسكينة وإطمئنان، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل. وكان نزول السكينة على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة حنين - كما ذكرنا آنفاً - لرفع الإِضطراب الناشيء من فرار أصحابه من المعركة، وإلاّ فهو كالجبل الشامخ الركين، وكذلك ابن عمّه علي (عليه السلام) وقلة من أصحابه (المسلمين). 4 - في الآيات محل البحث إشارة إِلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة! هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه، التي أسهم فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصيّاً، وقاتل الأعداء، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضراً في المعركة. إلاّ أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) أنّها تبلغ الثمانين غزوةً. وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيراً إن هو عوفي من مرضه "ويقال أنّه قد سُمَّ"، فلما عُوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإِيفاء نذره، فلم يعرفوا للمسألة جواباً. وأخيراً سأل الخليفة العباسي الإِمام التاسع محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) فقال: "الكثير ثمانون". فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإِمام بالآية (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ثمّ قال: عددنا حروب النّبي التي إنتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين (9). 5 - إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درساً بليغاً، هو أن ينظروا إِلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا بكثرة العَدَد أو العُدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئاً، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإِرادة والتصميم، حتى لو كانوا قلةً. كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إِلى إنتصار على العدو وكانت الكثيرة باديء الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإِيمان تماماً. فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية، لتكون قلوبهم مركزاً للسكينة الإِلهية، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة. ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء﴾ ممن يتوب منهم مخلصا ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.