لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير مسؤوليتنا إزاء أهل الكتاب: كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أمّا الآية - محل البحث (وما يليها من الآي) - فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب. وفي هذه الآيات جعل الإِسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّاً وسطاً بين المسلمين والكفار، لأنّ أهل الكتاب من حيث اتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين، إلاّ أنّهم من جهة أُخرى لهم شبه بالمشركين أيضاً. ولهذا فإنّ الإِسلام لا يجيز قتلهم، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من لكرة الأرضية، غير أنّ الإِسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم أهل الكتاب الإِسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد. والعلامة الأُخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إِلى الحكومة الاسلامية مبلغاً قليلا من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء الله. وفي غير هذه الحال فإنّ الإِسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث: إذ تقول الآيه أوّلا: (قاتلو الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر). لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب - كاليهود والنصارى - بالله وباليوم الآخر، مع أننا نراهم في الظاهر يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد أيضاً؟ والجواب: لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام، أمّا في مسألة الإِيمان بالمبدأ وحقيقة التوحيد، فلأنّه: أوّلا: يعتقد طائفة من اليهود - كما سنرى ذلك في الآيات المقبلة - أن عزيراً ابن الله، كما يتعقد المسيحيون عامّة بألوهية المسيح والتثليث (الله والابن وروح القدس). وثانياً: كما يُشار إليه في الآيات المقبلة، فانّ كلاّ من اليهود والنصارى مشركون في عبادتهم، ويعبدون أحبارهم - عمليّاً - ويطلبون منهم العفو والصفح عن الذنب، وهذا ممّا يختصّ به الله، مضافاً إِلى تحريف الأحكام الإلهية بصورة رسمية. وأمّا إيمانهم بالمعاد فإيمان محرّف، لأنّ المعاد كما يستفاد من كلامهم منحصر بالمعاد الروحاني، فبناءً على ذلك فإنّ إيمانهم بالمبدأ مخدوش، وإيمانهم بالمعاد كذلك. ثمّ تشير الآية إِلى الصفة الثّانية لأهل الكتاب، فتقول: (ولا يحرمّون ما حرم الله ورسولُه). ومن الممكن أن يكون المراد من كلمة "رسوله" نبيّهم موسى أو عيسى (عليهما السلام)، لأنّهم لم يكونوا أوفياء لأحكام دينهم، وكانوا يرتكبون كثيراً من المحرمات الموجودة في دين موسى أو عيسى، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل كانوا يحكمون بحليتها أحياناً. ويمكن أن يكون المراد من "رسوله" نبيَّ الإِسلام محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنّما أمر المسلمون بمقاتلة اليهود والنصاري وجهادهم إيّاهم، لأنّهم لم يذعنوا لما حرّمه الله على يد نبيّه، وارتكبوا جميع أنواع الذنوب. وهذا الإِحتمال يبدو أقرب للنظر، والشاهد عليه الآية (33) من هذه السورة ذاتها، وسنقف على تفسيرها قريباً، إذ تقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ). أضف إِلى ذلك حين ترد كلمة (رسوله) في القرآن مطلقةً فالمراد منها النّبي (محمّد) (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو سلّمنا بأنّ المراد من (رسوله) هنا نبيّهم، فكان ينبغي أن تكون الكلمة (تثية) أو جمعاً، كما جاء في الآية (13) من سورة يونس (وجاءتهم رسلهم بالبيّنات) ونظير هذا التعبير في القرآن ملحوظ ويمكن أن يقال: إنّ الآية في هذه الصورة ستكون من باب تحصيل الحاصل أو توضيح الواضح، لأن من البديهي أن غير المسلمين لا يحرمون ما حرمه الإِسلام. لكن ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ المراد من هذه الصفات هو بيان علة جواز جهاد المسلمين اليهود ومقاتلتهم إيّاهم. أي يجوز أن تجاهدوا اليهود والنصارى - لأنّهم لا يحرمون ما حرم الإِسلام إرتكبوا كثيراً من الآثام - إذا واجهوكم وخرجوا عن كونهم أقلية مسالمة. وتذكر الآية الصفة الثّالثة التي كانوا يتصفون بها فتقول: (ولا يدينون دين الحق). ويوجد إحتمالان في هذه الجملة أيضاً، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد من دين الحق هو دين الإِسلام المشار إليه بعد بضع آيات. وذكر هذه الجملة بعد عدم اعتقادهم بالمحرمات الإِسلامية، هو من قبيل ذكر العام بعد الخاص، أي أن الآية أشارت أوّلا إِلى إرتكابهم لمحرمات كثيرة، وهي محرّمات تلفت النظر كشرب الخمر والربا وأكل لحم الخنزير، وإرتكاب كثير من الكبائر التي كانت تتسع يوماً بعد يوم. ثمّ تقول الآية: إن هؤلاء لا يدينون بدين الحق أساساً، أي أن أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل، فنسوا كثيراً من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها، فعليهم أن يتقبلوا الإِسلام، وأن يعيدوا بناء أفكارهم من جديد على ضوء الإِسلام وهداه، أو يكونوا مسالمين - على الأقل - فيعيشوا مع المسلمين، وأن يقبلوا شروط الحياة السلمية مع المسلمين. وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي في الحقيقة المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب، تقول الآية (من الذين أوتوا الكتاب). وكلمة "من" في الآية بيانية لا تبعيضية، وبتعبير آخر: إنّ القرآن يريد أن يقول: إن أهل الكتاب السابقين - وللأسف - لا يدينون بدين الحق وانحرفوا عن المعتقدات الصحيحة، وهذا الحكم يشملهم جميعاً. ثمّ تبيّن الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم، بالجملة التالية (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). "والجزية" مأخوذة من مادة الجزاء، ومعناها المال المأخوذة من غير المسلمين الذين يعيشون في ظلّ الحكومة الإِسلامية، وهذه التسمية لأنّها جزاء حفظ أموالهم وأرواحهم (هذا ما يستفاد من كلام الراغب في مفرداته فلا بأس بمراجعتها). "والصاغر" مأخوذ من "الصِغَر" على زنة "الكِبَر" وخلاف معناه، ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أن الجزية ينبغي أن تُدفع في حال من الخضوع للإِسلام والقرآن. وبتعبير آخر: هي علامه الحياة السلمية، وقبول كون الدافع للجزية من الأقلية المحفوظة والمحترمة بين الأكثرية الحاكمة. وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المراد من الجزية في الآية هو تحقير أهل الكتاب وإهانتهم والسُخر منهم، فلا يستفاد ذلك من المفهوم اللغوي لكلمة الآية، ولا ينسجم وروح تعاليم الإِسلام السمحة، ولا ينطبق مع سائر التعاليم أو الدستور الذي وصلنا في شأن معاملة الأقليات. وما ينبغي التنويه به هنا هو أنّ الآية وإن ذكرت شرط "الجزية" من بين شروط الذمة فحسب، إلاّ أن التعبير بـ (هم صاغرون) إشارة إجمالية إِلى سائر شروط الذمّة، لأنّه يستفاد من هذه الجملة بأنّهم - مثلا - يعيشون في محيط إسلامي، فليس لهم أن يظاهروا أعداء الإِسلام، ولا يكون لهم إعلام مضاد للإِسلام، ولا يقفوا حجر عثرة في رقيه وتقدمه، وما إِلى ذلك، لأنّ هذه الأُمور تتنافى وروح الخضوع والتسليم للإِسلام والتعاون مع المسلمين. ما هَي الجزية؟! تُعدّ الجزية ضريبةً مالية "إسلامية" وهي تتعلق بالأفراد لا بالأموال ولا بالأراضي، أو بتعبير آخر: هي ضريبة مالية سنوية على الرؤوس. ويعتقد بعضهم أنّها ليست من أصل عربي، بل هي فارسية قديمة وأصلها "كزيت" ومعناها الأموال التي تؤخذ للدعم العسكري، أو ما يصطلح عليه في عصرنا ب- "المجهود الحربي". لكن الكثير يعتقدون أن هذه الكلمة "الجزية" عربية خالصة. وكما ذكرنا آنفاً فهي مأخوذة من الجزاء، لأنّ الضريبة التي تدفع، إنّما هي جزاء الأمن الذي توفره الحكومة الإِسلامية للأقليات المذهبية. والجزية، كانت قبل الإسلام، ويعتقد بعضهم أن أوّل من أخذ الجزية هو كسرى أنوشروان الملك الساساني، ولو لم نسلّم بأنّه الأوّل فلا أقل من أن أنوشروان كان يأخذ من أبناء وطنه الجزية، وكان يأخذ ممن لم يكن موظفاً في الدولة وعمره أكثر من عشرين عاماً وأقل من خميس عاماً، مبلغاً سنوياً يتراوح بين 12 و8 و6 و4 درهم، على أنّه ضريبة سنوية على كل فرد. وذكروا أن فلسفة هذه الضرائب أو حكمتها هي الدفاع عن موجودية الوطن واستقلاله وأمنه، وهي وظيفة عامّة على جميع الناس، فبناءً على ذلك متى ما قام جماعة فعلا بالمحافظة على الوطن ولم يستطع الآخرون أن يجندوا أنفسهم للدفاع عن الوطن، لأنّهم يكتسبون ويتّجرون - مثلا - فإن على الجماعة الثّانية أن تقوم بمصارف المقاتلين فتدفع ضرائب سنوية للدولة. وما لدينا من القرائن يؤيد فلسفة الجزية... سواء قبل الإِسلام أو بعده. فمسألة السنّ في من يعطي الجزية في عصر أنوشروان الذي ذكرناه آنفاً "وهي أنّ الجزية تقع على من عمره عشرون عاماً إِلى خميس عاماً" دليل واضح على هذا المطلب، لأنّ أصحاب هذه المرحلة، من العمر كانوا قادرين على حمل السلاح والمساهمة في الحفاظ على أمن البلاد، إلاّ أنّهم كانوا يدفعون الجزية لأعمالهم وكسبهم. والشاهد الآخر على ذلك أنّه لا تجب الجزية "في الإِسلام" على المسلمين، لأنّ الجهاد واجب عليهم جميعاً، وعند الضرورة يجب على الجميع أن يتجهوا نحو ساحات القتال ليقفوا بوجه العدوّ، إلاّ أنّه لما كانت الأقليات المذهبية في حلٍّ من أمر الجهاد، فعليها أن تدفع المال مكان الجهاد، ليكون لهم نصيب في الحفاظ على أمن الوطن الذي يتمتعون بالحياة فيه. ثمّ إن سقوط الجزية عن الأطفال والشيوخ والمقعدين والنساء والعُمي، دليل آخر على هذا الموضوع. ممّا ذكرناه يتّضح أن الجزية إعانة مالية فحسب، يقدمها أهل الكتاب إزاء ما يتحمله المسلمون من مسؤولية في الحفاظ عليهم وعلى أموالهم. فبناء على ذلك فإنّ من يزعم أنّ الجزية نوع من أنواع حق التسخير، لم يلتفت إِلى روحها وحكمتها وفلسفتها، وهي أن أهل الكتاب متى دخلوا في أهل الذمة فإنّ الحكومة الإِسلامية يجب عليها أن ترعاهم وتحافظ عليهم وتمنعهم من كل أذى أو سوء. وهكذا فإنّ أهل الذمة عند دفعهم الجزية، بالإِضافة إِلى التمتع بالحياة مع المسلمين في راحه وأمان فليس عليهم أي تعهد من المسامهة في القتال مع المسلمين وفي جميع الأُمور الدفاعية - ويتّضح أن مسؤوليتهم إزاء الحكومة الإِسلامية أقل من المسلمين بمراتب. أي أنّهم يتمتعون بجيمع المزايا في الحكومة الإِسلامية بدفعهم مبلغاً ضئيلا، ويكونون سواءً هم والمسلمون. في حين أنّهم لا يواجهون الأخطار ومشاكل الحرب. ومن الإدلة التي تؤيد فلسفة هذا الموضوع، أنّه في المعاهدات التي كانت - في صدر الإِسلام بين المسلمين وأهل الكتاب في شأن الجزية، تصريح بأنّ على أهل الكتاب أن يدفعوا الجزية، وفي قبال ذلك على المسلمين أن يمنعوهم (أي يحفظوهم) وأن يدافعوا عنهم اذا داهمهم العدو الخارجي. وهذه المعاهدات كثيرة، ونورد مثلا منها، وهي المعاهدة التي تمت بين خالد بن الوليد مع المسيحيين الذين كانوا يقطنون حول "الفرات": نص كتاب المعاهدة: "هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذّمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية وإلاّ فلا، كتب سنة اثنتى عشرة في صفر " (1). والذي يسترعي النظر هو أننا نقرأ في هذه المعاهدة وأمثالها أنّه متى ما قصّر المسلمون في الحفاظ على أهل الذمة أو لم يمنعوهم، فالجزية تعاد إليهم أو لا تؤخذ منهم عندئذ أصلا. وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الجزية ليس لها مقدار معين وميزانها بحسب استطاعة من تجب عليهم، غير أنّ المستفاد من التواريخ أنّها عبارة عن مبلغ ضئل قد لا يتجاوز الدينار (2) في السنة، وربّما قُيد في المعاهدة أن على دافعي الجزية أن يدفعوا بمقدار استطاعتهم جزيةً. ومن جميع ما تقدم ذكره يتّضح أنّ جميع ما أثير من شبهات أو إشكالات في هذا الصدد، باطل لا إعتبار له، ويثبت أن هذا الحكم الإِسلامي حكم عادل ومنصف. ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ إيمانا صحيحا فإيمانهم كلا إيمان ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ الثابت الناسخ لغيره ﴿مِنَ﴾ بيانية ﴿الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى وألحقوا بهم المجوس، وروي أن لهم نبيا قتلوه وكتابا حرفوه ﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ﴾ ما ضرب عليهم من المال ﴿عَن يَدٍ﴾ حال من الجزية أي نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو من الواو أي منقادين مسلمين بأيديهم لا بنائب أو عن قهر عليهم أي مقهورين ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أذلاء.