لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير شرك أهل الكتاب: كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإِلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إِلى أهل الكتاب وقد حدد الإِسلام لهم شروطاً ليعيشوا بسلام مع المسلمين، فإنّ لم يفوا بها كان على المسلمين أن يقاتلوهم. وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى منهم، ليتّضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم، فإنّما هو لإِنحرافهم عن التوحيد، وميلهم إِلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة. فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (وقالت اليهود عزيزٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون). بحوث 1 - من هُوَ عزيرٌ؟! "عزير" في لغة العرب هو "عزرا" في لغة اليهود، ولمّا كانت العرب تغيّر في بعض الكلمات التي تردها من لغات أجنبية وتجري على لسانها، وذلك كما هي الحال في إِظهار المحبّة خاصّة فتصغر الكلمة، فصغرت عزرا إِلى عُزير، كما بُدلت كلمة يسوع العبرية إِلى عيسى في العربية، ويوحنا إِلى يحيى. (1) وعلى كان حال، فإن عزيراً - أو عزرا - له مكانة خاصّة في تاريخ اليهود، حتى أن بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لأُمّة اليهود باني مجدهم وفي الواقع فإنّ له خدمةً كبرى لدينهم، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة، وجعل مُدُنَهم، تحت سيطرة جنوده فأبادوها، وهدموا معابدهم، وأحرقوا توراتهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساءهم، وأسروا أطفالهم، وجيء بهم إِلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن. ولما فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا، وكان من أكابر اليهود، فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم، فرجعوا إِلى ديارهم وكتب لهم التّوراة - ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به - من جديد. ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم. (2) وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم بـ "ابن الله" غير أنّه يستفاد من بعض الرّوايات - كما في الإِحتجاج للطبرسي - أنّهم أطلقوا هذا اللقب احتراماً له لا على نحو الحقيقة. ولكنّنا نقرأ في الرّواية ذاتها أنّ النّبي سألهم بما مؤدّاه (إذا كنتم تُجلّون عزيراً وتكرمونه لخدماته العظمى وتطلقَون عليه هذا الاسم، فعلامَ لا تسمّون موسى وهو أعظم عندكم من عزير بهذا الاسم؟ فلم يجدوا للمسألة جواباً وأطرقوا برؤوسهم) (3). ومهما يكن من أمر فهذه التسمية كانت أكبر من موضوع الإِجلال والإِحترام في أذهان جماعة منهم، وما هو مألوف عند العامّة أنّهم يحملون هذا المفهوم على حقيقته، ويزعمون أنّه ابن الله حقّاً، لأنّه خلصهم من الدمار والضياع ورفع رؤوسهم بكتابة ا لتوراة من جديد. وبالطبع فهذا الإِعتقاد لم يكن سائداً عند جميع اليهود، إلاّ أنّه يستفاد أنّ هذا التصّور أو الإِعتقاد كان سائداً عند جماعة منهم، ولا سيما في عصر النّبي محمّد (ص) ، والدليل على ذلك أنّ أحداً من كتب التاريخ، لم يذكر بأنّهم عندما سمعوا الآية آنفة الذكر احتجوا على النّبي أو أنكروا هذا القول "ولو كان لبان". وممّا قلناه يمكن الإِجابة على السؤال التّالي: أنّه ليس بين اليهود في عصرنا الحاضر من يدعي أنّ عزيراً ابن الله ولا من يعتقد بهذا الإِعتقاد، فعلام نسب القرآن هذا القول إِليهم؟! وتوضيح ذلك، أنّه لا يلزم أن يكون لجميع اليهود مثل هذا الإِعتقاد، إِذ يكفي هذا القدر المسلم به، وهو أنّه في عصر نزول الآيات على النّبي محمّد (ص) كان في اليهود من يعتقد بهذا الإِعتقاد، والدليل على ذلك كما نوّهنا، هو أنّه لم ينكر أيّ منهم ذلك على النّبي والشيء الوحيد الذي صدر منهم - وفقاً لبعض الرّوايات - أنّهم قالوا: إِنّ هذا اللقب "ابن الله" إِنّما هو لإِحترام عزير، وقد عجزوا عن جواب لمّا سألهم وأشكل عليهم: لم لا تجعلون هذا اللقب إِذاً لنبيّكم موسى (ع) ؟! وعلى كل حال فمتى ما نسب قول أو اعتقاد إِلى قوم ما، فلا يلزم أن يكون الجميع قد اتفّقوا على ذلك، بل يكفي أن يكون فيهم جماعة ملحوظة تذهب إِلى ذلك. 2 - لم يكن المسيحُ ابن اللهِ لا ريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى هو الابن الحقيقي لله، ولا يطلقون هذا الاسم إِكراماً وتشريفاً له، بل على نحو المعنى الواقعي له، وهم يصرّحون في كتبهم أن إِطلاق هذا الاسم على غير المسيح بالمعنى الواقعي غير جائز، ولاشك أنّ هذا من بدع النصارى، والمسيح لم يدّعِ مثل هذا الإِدعاء أبداً، وإِنّما كان يقول: بإنّه عبدٌّ لله، ولا معنى أساساً لأن ننسب علاقة الأبوة والبنوة الخاصّة بعالم المادة وعالم الممكنات بين الله وعباده أبداً. 3 - اقتباس هذه الخرافات يقول القرآن المجيد في الآية محل البحث: أنّهم - أي اليهود والنصارى - يضاهئون - أي يُشبهون بانحرافاتهم - الذين كفروا والمشركين. وهذا التعبير يشير إِلى أنّهم مقلّدون إِذ كانوا يعتقدون بأنّ بعض الآلهة هو إِله الأب، وبعضها إِله الابن، وحتى أنّ بعضهم كان يعتقد بأنّ هناك إِله الأُم، وإِله الزوج، وقد لوحظت مثل هذه الافكار في جذور عقائد المشركين في الهند أو الصين أو مصرالقديمة ثمّ تسرّبت إِلى اليهود والنصارى. وفي العصر الحاضر خَطَر عند بعض المحقّقين أن يوازن ويقارن بين ما في العهدين "التوراة والإِنجيل ومايرتبط بهما" وبين عقائد البوذيين والبرهمائيين، فاستنتجوا أن كثيراً من معارف الإِنجيل والتوراة تتطابق مع خرافات البوذيين والبرهمائيين تطابقاً ملحوظاً، حتى أنّ بعض الحكايات والقصص الموجودة في الإِنجيل هي الحكايات والقصص ذاتها الموجودة في الديانة البوذائية والبرهمائية. وإِذا كان المفكرون توصّلوا اليوم إِلى مثل هذه الحقيقة، فإنّ القرآن أشار إِليها قبل أربعة عشر قرناً في الآية محل البحث. 4 - ما هو معنى (قاتلهم الله) جملة وإِن كان معناها في الأصل أنّ الله مقاتلٌ إيّاهم وما إِلى ذلك، لكن كما يقول الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس، إِن هذه الجملة كناية عن اللعنة أي أنّ الله أبعدهم عن رحمته، فهو دعاء عليهم. وفي الآية التالية إِشارة إِلى شركهم العملي في قبال الشرك الإِعتقادي، أو بعبارة أُخرى إشارة إِلى شركهم في العبادة، إِذ تقول الآية: (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم). "الأحبار" جمع حبر، ومعناه العالم، و"الرهبان" جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة. وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، ولم يصلوا ولم يصوموا لهم، ولم يعبدوهم أبداً، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الاحكام المخالفة لحكم الله من قبلهم، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة. وهذا المعنى واردٌ في رواية عن الإِمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) إِذا قالا: "أمّا والله ما صاموا لهم ولا صلّوا، ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالا، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون". (4) وفي حديث آخر، أنّ عديّ بن حاتم قال: وفدت على رسول الله (ص) وكان في رقبتي صليب من الذّهب، فقال لي (ص): يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك، ففعلت ذلك، ثمّ دنوت منه فسمعته يتلو الآية (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً) فلمّا أتم الآية قلت له: نحن لا نتّخذ أئمتنا أرباباً أبداً، فقال: "ألم يحرموا حلال الله ويحلّوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلتُ: بلى، فقال: فهذه عبادتهم". (5) والدليل على هذا الموضوع واضح، لأنّ التقنين خاص بالله، وليس لأحد سواه أن يحل أو يحرم للناس، أو يجعل قانوناً، والشيء الوحيد الذي يستطيع الإِنسان أن يفعله هو اكتشاف قوانين الله وتطبيقها على مصاديقها. فبناءً على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون الله، وقبله إِنسان آخر دون قيد أو اعتراض او استفسار فقد عبد غيرالله، وهذا بنفسه نوع من أنواع الشرك العملي، وبتعبير آخر: هو عبادة غيرالله. ويظهر من القرائن أنّ اليهود والنصارى يرون مثل هذا الإِختيار لزعمائهم، بحيث لهم أن يغيّروا ما يرونه صالحاً بحسب نظرهم، وما يزال بعض المسيحيين يطلب العفو من القسيس فيقول له القسّ، عفوت عنك! وكان - منذ زمن - موضوع صكوك الغفران رائجاً. ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ أي بعض أسلافهم أو من بالمدينة ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى﴾ أي بعضهم ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ﴾ إنكار لحصول ولد بلا أب ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ لا حجة لهم عليه ﴿يُضَاهِؤُونَ﴾ يضاهي قولهم ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾ من قبلهم أي أسلافهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله ﴿قَاتَلَهُمُ اللّهُ﴾ أهلكهم أو لعنهم ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن الحق مع قيام الحجة.