لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
كنز الأموال: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك، إِذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله. الآية الأُولى محل البحث تقول: إِنّ أُولئك مضافاً إلى كونهم غير جديرين بالأُلوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضاً، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة. فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول: (يا أيّها الذين آمنوا إِنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله). الطريف هنا أنّنا نواجه الأُسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أُخرى من آياته، فالآية هنا لم تقل: إِنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون، بل قالت: (إِن كثيراً) فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن، وقد أشرنا الى ذلك سابقاً. لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز، أو كما عبّر القرآن "بالباطل" فقد أشرنا سابقاً الى ذلك في آيات أُخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضاً، وذلك: أوّلاً: إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى (ع) في توراته وعيسى (ع) في إِنجيله، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد، "الدين الإِسلامي" فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر، كما أشارت الى ذلك الآيات (41) و (79) و (174) من سورة البقرة. والثّاني: إنّهم بأخذهم "الرّشوة" كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّاً، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء، كما أشارت الى ذلك الآية (41) من سورة المائدة. ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى بـ "صكوك الغفران وبيع الجنّة" فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس، ويبيعون الجنّة بـ "صكوك الغفران" والغفران ودخول الجنّة منحصران بإِرادة الله وأمره، وهذا الموضوع - أي صكوك الغفران - يضجُّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم. وأمّا صدّهم عن سبيل الله فهو واضح، لأنّهم كانوا يحرفون آيات الله، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفاً لمقامهم ومنافعهم، ويحاكمونه - في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ وجه، ويصدرون عليه أحكاماً جائرة قاسية جدّاً. ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يُقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل الله، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإِسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم، فبناءً على ذلك يمكن أن يقال - بكل جرأة ودون تحفظ - أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أُولئك "الرهبان والأحبار" لأنّهم كانوا سبباً في بقائهم في الظلمات، ظلمات الكفر والضلال.... وما زالت الكنيسة لحدّ الاّن تبذل قصارى وسعها - ولا يقصر في ذلك اليهود أيضاً - لتغيير أفكار عامّة الناس، وإِلفاتهم عن الإِسلام، كما وجه اليهود تهماً كثيرة عجيبة إلى النّبي (ص). وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أُسلوب الكنيسة في مواجهة الإِسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالاسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر. وتعقيباً على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء، الذين يكنزون أموالهم، فيقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). والفعل "يكنزُون" مأخوذ من مادة "الكنز" وهو المال المدفون في الأرض، وهو في الاصل جمع أجزاء الشيء، ومن هنا فقد سمّي البعير ذواللحم الكثير بأنّه "كناز اللحم" ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وإِدخاره ودفنه، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن. فبناءً على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإِخفاء والمحافظة. "الذهب والفضة" معدنان مشهوران، وكان النقد أو العملة سابقاً بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ. ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولُغتيهما "كما ذكر ذلك العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان" فقال: إِنّما سمّي الذهب ذهباً لذهابه عن اليد عاجلا، وإِنّما سمّيت الفضة لإِنفضاضها أي لتفرّقها، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين - الذهب والفضة). ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة - سلعةً بسلعة - رائجة بين الناس، فكان كلُّ يبيعُ ما يجده زائداً على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر، أو بضاعة أُخرى، لأنّ النقد "الدينار أو الدرهم" لم يكن آنئذ، لكن لما كانت المبادلة - أعني مبادلة الأجناس أو البضائع - تُحدث بعض المشاكل أو المصاعب، لعدم وجود ما يحتاجه البائع، دائماً فقد يكون هناك شيء آخر - مثلا - يراد تبديله، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد. وقد كان وجود الفضة، بل الأهم منه وجود الذهب، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية، وبهما اتّخذت المعاملات رونقاً جديداً بارزاً. فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد - الذهب والفضة - هي سرعة تحرك عَجلةِ المبادلات الإِقتصادية. أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة، فهم لا يكونون سبباً لركود الوضع الإِقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب، بل إِنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه. فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال، والثروة بصراحة، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وما فيه نفع عباد الله، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق، وإِلاّ فلينتظروا "العذاب الأليم". وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب، بل يشملهم في الدنيا - لإِرباكهم الحالة الإِقتصادية ولإِيجاد الطبقية بين الناس "الفقير والغني" أيضاً. وإِذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإِسلامي بالأمس، فنحن نستطيع أن ندركه جيداً، لأنّ الأزمات الإِقتصادية التي أُبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة "أنانية"; وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء، غير خاف على أحد أبداً. حتى يعدّ جمع الثروة كنزاً؟ هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية - محل البحث - فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزاً، لأنّه زائد على حاجة الإِنسان، فهو حرام وفق مفهوم الآية... أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثّم ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة... أو أنّه يجب على الإِنسان دفع زكاته سنوياً لا غير، فإذا دفع الإِنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال؟ في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيت (ع) وروايات أهل السّنة، يلوح لنا التّفسير الثّالث، ففي حديث عن النّبي (ص) أنّه قال: "أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز". (1) كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر، فقالوا: ليس لنا أن ندخر شيئاً لأبنائنا إِذاً، ثمّ سألوا النّبي (ص) فقال: "إِن الله لم يفرض الزكاة إلاّ ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإِنّما فرض المواريث من أموال تبقى بَعْدَكم". (2) أي أن جمع المال لو كان - بشكل عام ممنوعاً - لما وجدنا لقانون الإِرث موضوعاً. وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي (قدس سره) ورد هذا المضمون ذاته عن النّبي (ص): "من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز". (3) إِلاّ أنّنا نقرأ روايات أُخرى في المصادر الإِسلامية لا ينسجم ظاهراً - ولأوّل وهلة - والتّفسير الآنف الذكر، ومنها ما ورد عن الإِمام علي (ع) في مجمع البيان أنّه قال: "ما زاد على أربعة آلاف (4) فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها، وما دونها فهي نفقة، فبشرهم بعذاب أليم". (5) وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير، أنّه سمع عن الصادق (ع) يقول: "لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات، وما بقي فهو حلال لهم، إلاّ أنّه إِذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه، وذلك معنى قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة). (6) ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان الله عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام، كان يقرأ الآية - محل البحث - في شأن معاوية، ويقول بصوت عال صباح مساء: "بشر أهل الكنوز بكىّ في الجباه وكىّ بالجنوب وكىّ بالظهور أبداً حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم". (7) كما يظهر من استدلال أبي ذر (رضي الله عنه) بالآية في وجه عثمان، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة، بل تشمل غيرهم أيضاً. ويمكن الإِستنتاج من مجموع الأحاديث - آنفة الذكر - منضمةً إِليها الآية محل البحث، أنّه في الظروف الإِعتيادية المألوفة، حيثُ يرى الناس آمنين، أو غير محدق بهم الخطر، والمجتمع في حال مستقر، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا يعد كنزاً. وينبغي الإِلتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإِسلامية، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة، لأنّ الإِسلام وضع قيوداً وشروطاً للمال لا يتسنى للانسان معها جمع الاموال وادّخارها. وأمّا في الحالات غيرالطبيعية وغير الإِعتيادية، وعندما يقتضي حفظُ مصالح المجتمع الإِسلامي ذلك، فإنّ الحكومة الإِسلامية، تحدّد لجمع المال مقداراً، كما مرّ في حديث الإِمام علي (ع) أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّاً، كما هو الحال في قيام المهدي، إِذ مرّت رواية الإِمام الصادق (ع) مع ذكر العلّة... "فيستعين به (أي المال) على عدوّه". إِلاّ أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإِسلامية، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والإِقتضاء "فلاحظوا بدقّة". وأمّا قصّة أبي ذر (رضي الله عنه) فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته، إِذا كان المجتمع الإِسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال، وكان جمع المال وكنزه مخالفاً لمنافع المجتمع وحفظ وجوده. ومع أن أبا ذر (رضي الله عنه) كان ناظراً الى أموال "بيت المال" التي كانت عند عثمان ومعاوية، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة، بل يجب دفعه الى أصحابه فوراً، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبداً. على أنّ التواريخ الإِسلامية - سنّية وشيعية - مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصراً ضحماً أحيا به أساطير قصور الساسانيين، وكان لأبي ذر رضوان الله عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها. أبوذر والإِشتراكية!! من المؤاخذات على الخليفة الثّالث مسألة إبعاد أبي ذر (رضي الله عنه) المصحوب بالقسوة والخشونة الى الرّبذه، تلك المنطقة التي كان يبغضها أبوذر والتي كانت غير صالحة من حيث الماء والهواء، حتى إنتهى الأمر الى موت هذا الصحابي الجليل والمجاهد المضحي في سبيل الإِسلام، وهو الذي قال فيه النّبي (ص): "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ". ونعرف أنّ الإِختلاف بين أبي ذر وعثمان لم يكن لأنّ أباذر كان يتمنى المال أو المقام، بل على العكس فقد كان أبوذر زاهداً عابداً ورعاً من جميع الوجوه، بل منشأ الخلاف وأساسه، هو أن عثمان فرّق مال بيت مال المسلمين على ذوي قرباه وأصحابه وأنفقه بلاحساب. وكان أبوذر (رضي الله عنه) متشدداً في الأُمور المالية، ولا سيّما ما كان منها متعلقاً ببيت مال المسلمين، وكان يرغب في أن يسير جميع المسلمين على سنة النّبي في هذا المجال، والتصرف بالمال، لكننا نعرف أنّ الأُمور أخذت طابعاً آخر في عصر الخليفة الثّالث عثمان. وعلى كل حال، فإنّ أباذر (رضي الله عنه) لما واجه الخليفة الثّالث بشدّة، وعنّفه في إِنفاق المال، أرسله عثمان الى الشام بادىء الأمر، فواجه أبوذر معاوية هناك بصورة أشدّ نقداً وأكثر صراحة، حتى أنّ ابن عباس قال: لقد برم معاوية من كلام أبي ذر وكتب الى عثمان: إِنّه إِن كانت لك حاجة في الشام فخذ أباذر، فإنّه إِن بقي فيها فسوف يصرف أهلها عنك. فكتب عثمان كتاباً وأحضر أباذر الى المدينة، وكما يقول بعض المؤرّخين: كتب عثمان الى معاوية، أن ابعث أباذر في جماعة من شرطتك ولا ترفّه عليه، وليجدّوا به السير ليل نهار، ولا يدعوه يستريح لحظة، حتى أن أباذر لما وصل المدينة مرض هناك ولما لم يكن وجوده في المدينة هيّناً على عثمان وأتباعه، فقد نفوه الى "الرّبذة" حتى مات (رحمه الله) فيها. وهناك من يحاول الدفاع عن الخليفة الثّالث ويتّهم أباذر أحياناً بأنّه اشتراكي، إِذ كان يرى أنّ جميع الأموال عائدة الى الله، وكان ينكر الملكية الفردية!! وهذا الإِتهام في منتهى الغرابة، فمع أنّ القرآن يحترم الملكية الفردية بصراحة - وفق شروط معينة - وكان أبوذر (رضي الله عنه) من المقرّبين الى رسول الله (ص) وتربّى في حضن الإِسلام والقرآن، وما أظلت الخضراء أصدق منه، فكيف يتهم أبوذر بمثل هذا الإِتهام؟! إِنّ قاطني الصحراء البعيدين يعرفون هذا الحكم الإِسلامي، وكانوا قد سمعوا الآيات التي تتعلق بالتجارة والإِرث، فكيف يمكن أن يُصدق بأن أقرب تلامذة رسول الله كان جاهلا بهذا الحكم؟ أليس ذلك لأنّ المتعصبين الألداء من أجل تبرئة الخليفة الثّالث والأعجب من ذلك تبرئة معاوية وحكومته - إتهموا أباذرّ بمثل هذا الإِتهام، وما يزال بعض من عمي العيون صمّ الآذان يقلدون أسلافهم؟! أجَل إِن أباذر (رضي الله عنه) - بوحي واستلهام من آيات القرآن وخاصّة آية الكنز - كان يعتقد ويصرّح بعقيدته أن بيت المال لا ينبغي أن يتحول الى ملكية فردية بيد الأشخاص، ويجب ألاّ يُحرم المستضعفون والمحتاجون منه، وينبغي أن ينفق في سبيل تقوية الإِسلام ومصالح المسلمين، فلايجوز تبذير الأموال، وأن بيت المال ليس ملكاً لمعاوية وأضرابه كي يشيد بهذه الأموال القصور على شاكلة قصور الأكاسرة والقياصرة! ثمّ إِنّ أباذر كان يعتقد يومئذ أنّه بإمكان الأغنياء أن يقنعوا بما دون الإسراف، ليواسوا إخوانهم الفقراء، وينفقوا أموالهم في سبيل الله. فإِذا كان أبوذر (رحمه الله) ذا وزر فوزره ما ذكرناه إلاّ أن المؤرّخين المتملقين، أو الذين يؤرخون للارتزاق ويبيعون دينهم بدنياهم، غيرّوا صورة هذا الصحابي المجاهد الناصع فجعلوه اشتراكياً!! وما يؤخذ على أبي ذر من وزر أيضاً هو حبّه الشديد للإِمام علي (ع) ، فقد كان هذا كافياً لأن يقوم بنو أمية بأساليبهم وأراجيفهم الخبيثة الجهنمية باسقاط حيثية أبي ذر، إلاّ أن نقاءه وطهارته ومعرفته بالأحكام الإِسلامية كانت ناصعة الى درجة أنّهم افتضحوا ولم يفلحوا في مرامهم. ومن جُملة الأكاذيب العجيبة التي ألصقوها بأبي ذر لتبرئة الخليفة الثّالث، ما ذكره ابن سعد في "الطبقات": إِنّ جماعة من أهل الكوفة جاؤوا أباذر عندما نفاه عثمان الى الرّبذه فقالوا: إن هذا الرجل (أي عثمان) فعل ما فعل بك، فهل مستعد أن ترفع راية تقاتل بها عثمان، ونحن نقاتله تحت رايتك؟ فقال أبوذر: كلاّ، لو أرسلني عثمان من المشرق الى المغرب لكنت مطيعاً لأمره. (8) ولم يلتفت هؤلاء الوضّاعون الى أنّه لو كان مطيعاً لأمره، لما كان عثمان يضيق ذرعاً به فيكون عليه - في المدينة - عبئاً ثقيلا لايستطيع حمله أبداً. والأعجب من ذلك ما ذكره صاحب المنار - ذيل الآية محل البحث - مشيراً الى قصّة أبي ذر وماجرى بينه وبين عثمان، فيقول: إِن قصّة أبي ذر تدل على أن عصر الصحابة - ولا سيما عصر عثمان - كان إِظهار العقيدة فيه مألوفاً، وكان العلماء محترمين، والخلفاء ذوي ولاء، حتى أن معاوية لم يجرؤ أن يقول شيئاً لأبي ذر، بل كتب كتاباً الى من هو فوقه مرتبة - أي عثمان - وطلب منه أن يرى فيه رأيه!! والحق أنّ التعصّب قد يصنع الاعاجيب، فهل كان - التبعيد والنفي الى الأرض اليابسة الحارة المحرقة "الرّبذة" أرض الموت والنّار تعبير عن احترام حرية الفكر ومحبّة العلماء!! هل أنّ تسليم هذا الصحابي الجليل "بيد الموت" يعدّ دليلا على حرية العقيدة!! وإِذا كان معاوية لم يستطيع أن يجرؤ على قتل أبي ذر أو التآمر عليه - خوفاً من إِنكار عامّة الناس - فهل يعدّ ذلك احتراماً لأبي ذر من قبل معاوية؟! ومن عجائب هذه القصّة - أيضاً - أن المدافعين عن الخليفة الثّالث يقولون: إِن تبعيد أبي ذر كان بحكم قانونتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؟ لأنّه وإِن كان لوجود أبي ذر في المدينة مصلحة كبيرة، وكان الناس يستفيدون من علمه، إِلاّ أنّ عثمان كان يرى أن بقاءه في المدينة يجر المفسدة - لطريقة تفكيره - ويحدث انعطافاً شديداً لا يمكن تحمله، فلأجل ذلك أغضى عثمان عن المصلحة في وجوده وأخرجه الى الرّبذة دفعاً للمفسدة ولما كان كل من أبي ذر وعثمان مجتهداً، فلا يمكن توجيه النقد أو الإِشكال أو أي شيء آخر إِليه. (9) ونحن بدورنا نتساءل: آية مفسدة كانت تترتب على وجود أبي ذر في المدينة؟! ترى هل في إِعادة الناس الى سنة النّبي (ص) مفسدة؟! ولم لا يشكل أبوذر (رضي الله عنه) على الخليفة الأوّل ولا الثّاني اللذين لم يفعلا ما فعله عثمان في أموال المسلمين "وبيت المال"؟! وهل في إعادة الناس الى المناهج المالية التي كانت في صدر الإِسلام مفسدة؟! وهل في نفي أبي ذر وقطع لسان الحق مصلحة؟! ألم تؤد أعمال عثمان واستمراره بإتفاق بيت المال الى أن أصبح ضحية لكل ذلك؟! ألم يكن ذلك مفسدة وتركه مصلحة؟! ولكن ما عسى أن نفعل، فإِذا دخل التعصب من باب فرّ المنطق من باب آخر!! وعلى كل حال، فإنّ سيرة هذا الصحابي الجليل لا تخفى على أي محقق منصف، ولا مجال لتبرئة الخليفة الثّالث ممّا نال من أبي ذر من الأذى أبداً، والمنطق الحق يدين أعمال عثمان. جزاء من يكنز! ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ كالرشاء في الحكم وسمي الأخذ أكلا لأن معظمه له ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ دينه ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ من المسلمين وغيرهم ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ لا يؤدون زكاتها قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أدى زكاته فليس بكنز ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ مؤلم.