التّفسير
وقف القتال "الإِجباري":
لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان - محل البحث - تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإِسلام، وهو احترام الأشهر الحُرم.
فتقول الأُولى: (إِنّ عدّة الشهور عندالله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض).
والتعبير بـ "كتاب الله" يمكن أن يكون إِشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية، إلاّ أنّه بملاحظة جملة (يوم خلق السماوات والأرض) يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.
وعلى كل حال، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.
وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعاً نظاماً طبيعياً، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (189) من سورة البقرة: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
ثمّ تضيف الآية - آنفة الذكر - معقبّةً: (منها أربعة حرم).
يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد "إِبراهيم الخليل (ع) "، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلاّ أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحياناً تبعاً لميولهم وأهوائهم، إلاّ أنّ الإِسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السَرد وهي: ذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وشهر منها منفصل عنها، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.
وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إِنّما يكون نافذ المفعول إِذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم يُنتقض من قبلهم، بل انتقض من قبل العدوّ "وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (194) من سورة البقرة".
ثمّ تضيف الآية مؤكّدة: (ذلك الدين القيّم).
ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إِضافة الى شريعة إِبراهيم الخليل (ع).
ولعلّ التعبير بـ (ذلك الدين القيم) إِشارة الى هذه اللّطيفة، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت: ثمّ تقول الآية: (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم).
إِلاّ أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلاّ أنّهم يقاتلونكم في صف واحد، "كافة" فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلابدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.
وتختتم الآية بالقول: (واعلموا أنّ الله مع المتقين).
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ المعتبرة للسنة ﴿عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ ثابتة ﴿فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ اللوح أو حكمه ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ﴿ذَلِكَ﴾ أي تحريمها ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ القويم دين إبراهيم ومنه ورثه العرب ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ بالمعاصي فإن الوزر فيهن أعظم، قيل نسخ تحريم القتال فيها لأن غزاة حنين والطائف في شوال وذي القعدة وقيل الضمير لكل الشهور ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ جميعا مصدر وقع حالا ﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصر والحفظ.