سبب النزول
قال جماعة من المفسّرين: إنّ النّبي (ص) كان يُعبّىء المسلمين ويُهيؤهم لمعركة تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء طائفة "بني سلمة" يُدعى "جدّ بن قيس" وكان في صفوف المنافقين، فجاء إلى النّبي (ص) مستأذناً أن لا يشهدَ المعركة، متذرعاً بأنّ فيه شبقاً إِلى النساء، وإذا ما وقعت عيناه على بنات الروم فربّما سيهيم وَلَهاً بهنَّ وينسحب من المعركة!!
فأذن له النّبي بالإِنصراف.
فنزلت الآية أعلاه معنفةً ذلك الشخص!
فالتفت النّبي (ص) إِلى بني سلمة وقال: من كبيركم؟
فقالوا: جدّ بن قيس، إلاّ أنّه رجل بخيلٌ وجبان، فقال: وأي شيء أبشع من البخل؟
ثمّ قال: إِن كبيركم ذلك الشاب الوضيء الوجه بشر بن براء "وكان رجلا سخياً سمحاً بشوشاً".
التّفسير
المنافقون المتذرّعون:
يكشف شأن النزول المذكور أن الإِنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم المشاركة في المعركة وميدان الجهاد، بأنّه ربّما تأسره الوجوه النضرة من بنات الروم وتختطف قلبه، فينسحب من المعركة ويقع في إشكالِ شرعي!!... ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت، إذ كان يقول: إِذا لم نضغط على الناس فإنّ ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل شرعاً.
فمن أجل التخلص من هذا الإِشكال الشرعي لابدّ من إِيذاء الناس وظلمهم!.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي (ص) ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلا: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي) بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.
كما ويحتمل في شأن نزول الآيه أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلّص من الجهاد.
ولكن القرآن يقول مجيباً عليه وأمثاله: (ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنّم لمحيطة بالكافرين).
أي أنّ أمثال أُولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب - هم الآن واقعون فيه فعلا، وأن جهنم محيطة بهم، لأنّهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!
ملاحظتان
1 - إِن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع، هو التدقيق في أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف، فهذه الأعذار تكشف - بجلاء - ما يدور في خلدهم وباطنهم.
فهم غالباً ما يتشبثون بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحياناً بدلا من الإهتمام بالمواضيع المهمّة، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرّعون بالاحكام الشرعية وأوامر الله ورسوله، في حين غارقون في دوّامة الخطايا، جادّون في عداوتهم للرسول ودينه القويم.
2 - للمفسّرين أقوال مختلف في تفسير جملة (وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين) فقال بعضهم: هذه العبارة كناية عن أحاطة عوامل ورودهم إِلى جهنم بهم، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!
وقال بعضهم: إنّ هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر بصيغة الفعل الماضي أو الحال، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.
كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي، وهو أن جهنم موجودة فعلا، وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا، فالكفار قابعون في وسط جهنّم في حياتهم الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها، كما أن الجنّة موجودة في هذه الدنيا أيضاً وتحيط بالجميع، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنّة جديرين بها فسيكونون مرتبطين بها; وأهل النّار جديرون بالنّار فهم من أهلها أيضاً.
﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي﴾ في التخلف قاله جد بن قيس ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ توقعني في الفتنة أي الإثم بمخالفتك بأن لا تأذن لي أو الفتنة ببنات الروم قال إني مولع بالنساء وأخاف أن أفتتن ببنات الأصفر ﴿أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ﴾ بتخلفهم وحذرهم ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ لا خلاص لهم.